“منطقة صغيرة لرسالة عظيمة”
حاضرة الفاتيكان، الأربعاء 18 فبراير 2009 (ZENIT.org) – ننشر في ما يلي الكلمة التي ألقاها بندكتس السادس عشر يوم السبت الفائت خلال مقابلة مع المشاركين في لقاء عقد بمناسبة ذكرى مرور 80 سنة على قيام دولة حاضرة الفاتيكان.
***
نيافة الكرادلة،
إخوتي الأجلاء في الأسقفية والكهنوت،
سيداتي وسادتي،
يسعدني أن أوجه تحية قلبية لكم جميعاً، من منظمين ومراسلين ومشاركين في المؤتمر المنظم من أجل الاحتفال بذكرى مرور 80 عاماً على تأسيس دولة حاضرة الفاتيكان. “منطقة صغيرة لرسالة عظيمة” هو العنوان الذي ركزتم عليه، مفكرين معاً حول القيمة الروحية والمدنية لهذه الدولة المستقلة الصغيرة الموضوعة كلياً في الخدمة التي أوكلها يسوع المسيح للرسول بطرس وخلفائه. أشكر الكاردينال جوفاني لايولو ليس فقط على التحية التي وجهها لي بالنيابة عنكم وإنما أيضاً على الالتزام الذي أظهره مع معاونيه في الحاكمية لإحياء هذه الذكرى المهمة، ذكرى مرور 80 سنة على نشأة دولة الفاتيكان.
أعبر عن فرحي الحقيقي بالاحتفالات وبمختلف المبادرات التذكارية التي حصلت هذه الأيام والموجهة إلى سبر المعرفة والتعرف أكثر على تاريخ حاضرة الفاتيكان ومظاهرها. ثمانون عاماً مضت على تأسيسها لتصبح واقعاً منجزاً بسلام على الرغم من أن أسباب وجودها والمهمات التي تدعى إلى القيام بها لا تُفهم دوماً بشكل جيد. وبالنسبة إلى العاملين يومياً في خدمة الكرسي الرسولي أو إلى سكان الحاضرة، فمن المسلم بأنه في قلب روما توجد دولة مستقلة صغيرة، إلا أنه ليس من المعلوم لدى الجميع بأنها نتاج عملية عذاب تاريخية جعلت قيامها ممكناً بتحفيزها من خلال مثل إيمان سامية وإدراك شامل للأهداف التي يجب أن تبلغها. وبالتالي يمكننا القول بأن الاحتفال الذي يبرر لقاءنا اليوم يدعونا إلى اطلاع أعمق على معنى وحقيقة دولة حاضرة الفاتيكان.
عند التفكير بأن الذكرى تعود إلى 11 فبراير 1929، من غير الممكن إلا أن نشعر بشكر عميق لمن كان المخطط والمؤيد الأول والأساسي لمواثيق اللاتران وهو سلفي الحبيب بيوس الحادي عشر. هو البابا في أيام طفولتي الذي كنا ننظر إليه بكل إجلال ومحبة. لقد دوى اسمه هذه الأيام في مناسبات عدة لأن امتلاكه وضوح رأي سام وإرادة لا تقهر جعل منه المؤسس الحقيقي والباني الأول لدولة حاضرة الفاتيكان. إضافة إلى ذلك فإن الدراسات التاريخية المستمرة حول حبريته تجعلنا نعي أكثر عظمة البابا راتي الذي أرشد الكنيسة خلال السنوات العسيرة بين الحربين العالميتين. فمن خلال إرادة صلبة نشط الحركة الكنسية في مختلف أبعادها، وهنا أذكر الانتشار التبشيري، والاهتمام بإعداد كهنة الله، وتفعيل نشاط المؤمنين العلمانيين في الكنيسة والمجتمع، وتعزيز العلاقة الوثيقة مع المجتمع المدني.
كان ينبغي على “البابا القيم على المكتبة” أن يعالج خلال حبريته المصاعب والاضطهادات التي كانت الكنيسة تعاني منها في بلدان مثل المكسيك وإسبانيا، والمواجهات التي أطلقتها الشمولية – الاشتراكية والفاشية – والتي تنامت وتعززت في تلك الأيام. ففي ألمانيا لم تُنس رسالته العامة العظيمة “بقلق شديد” التي تشكل رمزاً قوياً ضد النازية. حقاً أن العمل الحكيم والجبار الذي قام به هذا الحبر يثير الإعجاب فهو الذي أراد فقط أن تمنح للكنيسة حريتها التي تسمح لها بالقيام برسالتها على نحو كامل. إن دولة حاضرة الفاتيكان التي نشأت عن مواثيق اللاتران وبخاصة عن المعاهدة اعتبرها أيضاً بيوس الحادي عشر وسيلة لضمان الاستقلال اللازم عن كل السلطة البشرية، ولمنح الكنيسة وراعيها الأسمى إمكانية الاستجابة بالكامل للتفويض الذي حصلت عليه من المسيح الرب. إن فائدة هذه الحقيقة التامة على الرغم من صغر حجمها بالنسبة للكرسي الرسولي والكنيسة وروما والعالم أجمع تجلت بعد عشر سنوات عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية التي لامس عنفها وآلامها أبواب الفاتيكان.
لذلك، يمكن القول بأن دولة الفاتيكان أثبتت خلال العقود الثمانية بأنها أداة مرنة وبأنها لطالما كانت على مستوى الحاجات المطلوبة في رسالة البابا وحاجات الكنيسة إضافة إلى ظروف المجتمع المتغيرة باستمرار. لذلك تحديداً وتحت إشراف خلفائي الأحباء من خادم الله بيوس الثاني عشر إلى البابا يوحنا بولس الثاني، وعلى مرأى من الجميع ما يزال يحصل تكييف مستمر للمعايير والهيئات والوسائل المستخدمة في هذه الدولة الفريدة القائمة حول ضريح الرسول بطرس.
هذه الذكرى المهمة التي نحتفل بها حالياً هي سبب الشكر العميق للرب الذي يرشد أوضاع كنيسته في التقلبات العنيفة التي حصلت على مر التاريخ، ويعين ممثله على الأرض في القيام بخدمته كرأس الديانة المسيحية. كما أشمل بشكري جميع من كانوا سابقاً وما يزالون الآن أنصار حياة دولة حاضرة الفاتيكان المعروفين منهم وغير المعروفين الذين يقدمون خدمات متواضعة وثمينة. وأفكر بأعضاء الجماعة الحالية المسؤولين عن نشاط وعمل الحاكمية والهيئات الأخرى في الدولة والذين يترجمون آراء شعب الله أجمع. في الوقت عينه أود أن أشجع جميع العاملين في مختلف المكاتب والخدمات التابعة للفاتيكان على القيام بمهماتهم بصدق وجدارة مهنية وبإدراك أكبر بأن عملهم يشكل خدمة ثمينة لقضية ملكوت الله.
إن دولة حاضرة الفاتيكان هي في الحقيقة نقطة غير منظورة على خريطة العالم، دولة شديدة الصغر وعزلاء، خالية من الجيوش المخيفة، لا تمت بصلة إلى الا
ستراتيجيات الدولية الجغرافية والسياسية العظيمة. مع ذلك، فإن هذا الملجأ ذات الاستقلال المطلق عن الكرسي الرسولي كان وما يزال مركز تألق للعمل الثابت لصالح التضامن والخير العام. لهذا السبب تحديداً أوليست هذه القطعة الصغيرة من الأرض محط أنظار العالم أجمع؟
كما أن دولة حاضرة الفاتيكان التي تشمل كنوز إيمان وتاريخ وفن ترعى إرثاً ثميناً للبشرية. فمن قلبها حيث يعيش البابا إلى جانب ضريح القديس بطرس، تسمو دوماً رسالة التقدم الاجتماعي الحقيقي والرجاء والمصالحة والسلام. الآن وبعد مرور ثمانين عاماً على تأسيسها، تشق دولتنا دربها من جديد باندفاع رسولي أكثر عزماً. فلتصبح حاضرة الفاتيكان أكثر فأكثر “مدينة على الجبل” حقيقية ونيرة بفضل إيمان وتفاني جميع العاملين في خدمة رسالة خليفة بطرس الكنسية. مع هذا الرجاء، أبتهل حماية مريم الوالدية وشفاعة القديسين بطرس وبولس والشهداء الآخرين الذين جعلوا هذه الأرض مقدسة وأمنح بركتي النابعة من القلب لكم جميعاً أنتم المجتمعين هنا وللعائلة الكبيرة في دولة حاضرة الفاتيكان.
نقلته من الإنكليزية إلى العربية غرة معيط (ZENIT.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2009