رسالة البطريرك صفير لزمن الصوم 2009 (1)
بكركي، الاثنين 23 فبراير 2009 (zenit.org) – ننشرما ما يلي مقتطفاً من رسالة البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير لزمن الصوم، عن القيك الأخلاقية.
مقدمة
يسرّنا أن نتوجّه إليكم، في مناسبة الصوم المبارك، لنحدّثكم عن أمر يفرضه علينا ما يمرّ بنا من أحداث وما نشهده من شؤون في وطننا العزيز لبنان. وهو القيم الأخلاقيّة التي يحزّ في نفسنا أن نراها تتدنّى، يومًا بعد يوم. ويظهر هذا التدنّي خاصة في لغة التخاطب، والمواقف المتّخذة، وطريقة التعامل، التي لم تكن سابقًا مألوفة بين اللبنانيين. وهي ظاهرة تتجلّى خاصة على الصعيد الشخصيّ والاجتماعيّ، والتربية العائليّة والوطنيّة، ومؤسّسات الدولة على اختلافها. وهذا ما يشير إلى فساد في الأخلاق أصبح مستشرياً. لذلك أردنا أن نشير اليه، قبل أن يستفحل، ويتأصل في النفوس، فيصعب استئصاله فيما بعد. وما من أحد يجهل ما ستكون العاقبة اذا استشرى، لا سمح الله، وتعذّر اجتثاثه من جسم الوطن.
أولا: على الصعيد الشخصيّ والاجتماعيّ
ما هي القيم؟ القيم هي ما يجعل الانسان موضع احترام، سواء أكان في المجال الأدبيّ، أم العقليّ، أم المهنيّ. والكنيسة رفضت كلّ ما يمسّ بالقيم الأصليّة وبخاصة رفضت “النظريات الشموليّة والملحدة المشتركة، في الأعصر الحديثة، مع “الشيوعيّة” أو “الاشتراكية”. وعلاوة على ذلك، أنكرت في واقع “الرأسماليّة” الفرديّة وأولويّة قانون السوق المطلقة على العمل البشريّ. وتنظيم الاقتصاد عن طريق التخطيط فقط المركزيّ يفسد في الأساس العلاقات الاجتماعيّة، وتنظيمها فقط بواسطة قانون السوق يمسّ بالعدالة الاجتماعيّة، “لأن هناك حاجات اجتماعيّة كثيرة لا يمكن سدّها بواسطة السوق”لذلك يجب ايثار تنظيم معقول للسوق والمبادرات الاقتصاديّة، وفق سلّم قيم عادل، نظراً إلى الخير العام”.
إنّ الدين المسيحيّ يوجب على معتنقه أن يسير السيرة الحسنة، وأن يكون سلوكه الشخصي سلوكاً مثاليًا في بيته، ومجتمعه ومكان عمله، وأن ينتنهي بنواهي ضميره ويأتمر بأوامره، شرط أن يكون هذا الضمير مستقيمًا، وليس معوجّا أو منحرفًا. والضمير يظلّ دائمًا في حاجة إلى تدريب على ما يقول بولس الرسول: “لذلك أنا ايضًا أدرّب نفسي ليكون لي دائمًا ضمير سليم أمام الله والناس”. وهناك أناس، يقول أحد مشاهير الواعظين: “يسيّرون ضميرهم، كما يسيّر بائع الفواكه عربته”. وهذا ضلال مبيّن. وعلى الانسان أن يسير بهدي ضميره المستقيم، وليس عليه أن يسيّر ضميره على هواه. وعلى المسيحيّ أن يعيش في ظل الحقيقة، لأنّ الله هو ينبوع الحقيقة، وكلمته هي حق، على ما يقول سفر الأمثال: “لهاتي تهزّ بالحق وشفتاي تمقتان النفاق”. والسيّد المسيح يقول: “فكلّ ما تريدون أن يفعله الناس لكم، افعلوه لهم أنتم ايضًا. هذه هي التواراة والأنبياء”.
لقد أبان تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة ما هي واجبات المواطنين فقال: “عليهم أن يعملوا مع السلطات المدنيّة لصالح المجتمع بروح الصدق، والعدالة، والحريّة. إنّ محبّة الوطن وخدمته يوجبهما الاعتراف بالجميل، ونظام المحبّة. والخضوع للسلطات الشرعيّة وخدمة الخير العام يتطلبان من المواطنين القيام بدورهم في حياة الجماعة السياسيّة”.
والخضوع للسلطة، والمسؤوليّة المشتركة عن الخير العام يقضيان أدبيًا بدفع الضرائب، وممارسة حقّ الانتخاب والدفاع عن الوطن. إنّ القديس بولس يقول: “أدّوا إلى كلّ حقّه: الضريبة إلى من تجب له الضريبة، والجزية إلى من تجب له الجزية، المهابة إلى من تجب له المهابة، والأكرام إلى من يجب له الأكرام” لذلك تدعو الكنيسة السلطات السياسيّة إلى العودة بأحكامها وقراراتها إلى استلهام الحقيقة عن الله والانسان.
والتعليم المسيحيّ يقول أيضًا: “المسيحيون يقيمون في وطنهم، ولكن كغرباء ساكنين. وهم يقومون بجميع واجباتهم بوصفهم مواطنين، ويتحمّلون أعباءهم كغرباء… ويطيعون الشرائع القائمة، وطريقة حياتهم تفوق الشرائع… وأن المقام الذي وكّله الله إليهم هو من السموّ بحيث لا يسمح لهم بالهرب”. “ومن تهاون في الصغائر وقع في الكبائر” يقول الكتاب. لذلك على المؤمن أن يسهر على لسانه وسلوكه وتصرّفه، ليعيش عيشة ترضي الله ولا تتسبّب بضرر للنّاس: “والكنيسة، التي بسبب مهمّتها وصلاحيّتها، لا يمكنها أن تختلط بأيّ شكل من الأشكال بالجماعة السياسيّة، هي معًا علامة الشخص البشريّ الفائقة الطبيعة وضمانته”. إنّ الكنيسة تحترم الحريّة السياسيّة وتعمل على تقدّمها وتحترم مسؤوليّة المواطنين”.
ويستحثنا بولس الرسول على الصلاة والشكران من أجل الملوك وجميع الذين يمارسون السلطة “لنتمكن من أن نعيش عيشة هادئة بكل تقوة وكرامة”. ومن كان صريحًا وواضحًا مع نفسه، لا يمكنه إلا أن يكون صريحًا وواضحًا مع الناس، هذا اذا أراد أن يكون ذا مصداقيّة واحترام.
ولا تستقيم أحوال المجتمع وتزدهر إلا اذا تقيّد المواطنون بالمبادىء الأساسيّة التي ارتضوها بارتضائهم ما نصّ عليه دستور بلدهم من قواعد تلزمهم العمل بمقتضاها في مختلف الميادين التي يمارسون فيها نشاطهم. ويقول تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة: “في العمل يمارس الشخص جزءًا من القدرات المكتوبة في طبيعته. وأن قيمة العمل الأساسيّة تتعلّق بالانسان عينه الذي هو ربّ العمل والموجّه إليه. إنّ العمل هو من أجل الانسان وليس الانسان من أجل العمل. ويجب أن يستخرج كلّ من الناس من العمل وسيلة لسدّ حاجات حياته وحاجات ذويه، وتقديم خدمة إلى الجماعة الانسانية”.
“ولكلّ الحقّ في أن يأخذ المبادرة في الحقل الاقتصاديّ، وأن يستعمل استعمالاً مشروعًا مواهبه ليضافر في توفير الرخاء المفيد للجميع، وليقطف ثمار جهوده العادلة. وعليه أن يسهر على التقيّد بالتنظيمات التي تأتي بها السلطات الشرعيّة بغية توفير الخير العام”.
وليس من العدالة في شيء ألاّ يُدفع لأجهزة الضمان الاجتماعيّ الموجبات التي وضعتها السلطات الشرعيّة. والحرمان من العمل بسبب البطالة هو، تقريبًا دائمًا، لمن وقع ضحيّته، انتهاك لكرامته وتهديد لتوازن الحياة. وما عدا الضررالشخصيّ، هناك مخاطر عديدة تتفرّع عن هذا الأمر.