ثالثاً: على صعيد مؤسّسات الكنيسة والدولة
لا دولة دون مؤسّسات. وهذه لا بدّ منها للحياة الاجتماعيّة. وللمؤسّسات أهداف وغايات ترمي إلى تنظيم حياة المواطنين وفق قواعد ونمازج معروفة، تساعدهم في حياتهم ضمن الدولة. يقول التعليم المسيحيّ الكاثوليكيّ: “على العلمانيين، فضلاً عن ذلك، أن يجمعوا قواهم، ويحملوا إلى المؤسّسات، وظروف الحياة في العالم، عندما تستدرج إلى الخطيئة، ما ينظّفها تنظيفاً مقبولاً، لتصبح كلّها متوافقة وقواعد العدالة، وتساعد على ممارسة الفضيلة، بدلاً من أن تقيم في وجهها الحواجز. وبفعلها هذا، فهي تُدخل قيمة أدبيّة على الثقافة والأعمال البشريّة”.
و”العلمانيون بامكانهم أن يشعروا أيضاً بأنهم مدعوون، أو مستدعون، لمعاونة رعاتهم في خدمة الجماعة الكنسيّة، لنموّ هذه الأخيرة وحياتها، فيمارسون خدمات مختلفة كلّ الاختلاف، وفق النعمة والمواهب التي يحسن للربّ أن يضعها فيهم”.
“يستطيع المؤمنون في الكنيسة أن يساعدوا وفق الحق في ممارسة سلطة الادارة. وهكذا بحضورهم في اللجان الخاصة، ومجامع الأبرشيّات، واللجان الراعويّة، وفي ممارسة المهمة الراعويّة في إحدى الرعايا، والمساعدة في لجان الأعمال الاقتصاديّة، والمشاركة في المحاكم الكنسية”.
وكلّ جماعة بشريّة هي في حاجة إلى سلطة تتدبّر شؤونها. وهذه السلطة تجد جذورها في طبيعة الانسان. وهي لا بدّ منها لوحدة الأمّة. ويقوم دورها على تأمين الخير العام للمجمتع، على قدر الامكان.
والسلطة التي يتطلبها النظام الأدبيّ تأتي من الله. يقول بولس الرسول: “ليخضع كلّ انسان للسلطات العليا، فلا سلطة الاّ من الله، والسلطات القائمة هي من تدبير الله. فمن يجابه السلطة يقاوم تدبير الله. والذين يقاومون يجلبون العقاب على أنفسهم”
وبامكان العلمانيين أن يؤدّوا خدمات جلّى للدولة بانخراطهم فيها، وممارسة ما يوكل إليهم من وظائف ومهام، فيقومون بها من وجه الدّقة والضبط، ويخدمون مواطنيهم أحسن خدمة بانجازهم ما لهم من معاملات، واكتفائهم بما تضمنه لهم الدولة من رواتب.
وقضايا الرشوة والبخشيش وما سوى ذلك من أساليب موروثة عن العهد التركي ولا يزال يعمل بموجبها بعض الموظّفين.
والخطيئة، يقول تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، “تحمل الناس على التواطؤ فيما بينهم، وتجعل الشهوة، والعنف والظلم، تبسط ملكها عليهم. والخطايا تستدعي حالات اجتماعيّة ومؤسسات تخالف الجودة الإلهيّة. و”بنى الخطيئة” هي تعبير عن الخطايا الشخصيّة ونتيجتها. وهي تستحث ضحاياها على ارتكاب الشرّ بدورها. وهي تشكّل، عن طريق المشابهة، “الخطيئة الاجتماعية”
والموظّف إنّما هو موظّف ليقوم بخدمة معيّنة ترشده إليها الأنظمة والقوانين. وهو بالتالي في خدمة المواطنين ليقضي لهم أمورهم، وفقاً للقوانين المحدّدة. ولكنّه اذا تجاوز القوانين، وظلم الناس فهو مسؤول اذذاك أمام ربّه وضميره، قبل أن يكون مسؤولاً أمام القوانين والرؤساء. فهو في خدمة المواطنين، وليس للتعالي عليهم.
وواجب الطاعة يفرض على الجميع أن يؤدّوا للسلطة الاكرام الواجب لها، وأن يحيطوا الأشخاص الذين يمارسونها بالاحترام، وفق ما لهم من فضل، وبعرفان الجميل، والحسنى. وقال البابا اكليمنضوس الرومانيّ في صلاة له من أجل الحكّام: “أعطهم يا ربّ، الصحة، والسلام، والوفاق، والاستقرار، ليمارسوا دونما خلل السلطة التي منحتهم إيّاها. أنت، أيها السيّد السماويّ، ملك الدهور، تعطي أبناء البشر المجد، والقدرة، والأكرام، والسلطة على شؤون الأرض. دبّر، يا رب، مشورتهم، وفق ما هو خير، وما ينال رضاك، لكيما اذا مارسوا بتقوى وسلام ودماثة خلق، السلطة التي أعطيتهم إيّاها، يجدوك عطوفاً”
لا شكّ في أنّ الدولة يعتورها عراقيل كثيرة متأتية عن سؤ أداء القيّمين عليها وعن سواهم. وكلٌّ يريد أن يستغلّها لمصلحته الخاصة. وهي تجب أن تكون للجميع دونما تفرقة. وهي من طبعها يجب أن تسعى إلى رعاية جميع المواطنين دونما استثناء، فتشجّع المخلصين لها، العاملين على تحقيق مصالح الشعب، وتكافئهم، وتعاقب المتوانين في خدمتها أي خدمة الناس، وتقاصّهم. ولا تستقيم أهدافها، اذا كانت لا تحرص على مصالحها، وتترك القيّمين عليها يستغلّونها لمصالحهم الخاصة. يقول المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني: “هذه الجماعة السياسيّة (أي الدولة) وُجدت للخير العام، الذي يبرّر وجودها ويضفي عليها المعنى الكامل، ويمكنه تتبع حقوقها الخاصة. ويشمل الخير العام أوضاع الحياة الاجتماعيّة برمّتها، التي تسمح للافراد والعائلات والجماعات بأن يكتملوا بطريقة أوفى وأسهل”.
غير أن الناس الذين تضمّهم الجماعة السياسيّة متعدّدون، ومتنوّعون، ويستطيعون أن يميلوا إلى آراء مختلفة. وبما أن لكلّ واحد رأياً خاصاً، كان لا بدّ من سلطة تقدر على توجيه قوى الجميع، نحو الخير العام، وتحول دون تفكّك الجماعة السياسيّة، لا بطريقة استبداديّة أو آلية، بل تعمل كقوّة أدبيّة، تجد في الحريّة ومعنى المسؤوليّة سنداً لها”.
“ومن الواضح تماماً أن أساس الجماعة السياسيّة والسلطة العامة هو في الطبيعة البشريّة. وكلتاهما مرتبطتان بنظام حدّده الله. غير أن تحديبد نوع الحكم السياسيّ، وتعيين القادة، متروكان لحرية المواطنين وارادتهم”.
ويتابع المجمع قائلاً: “ينتج أن ممارسة السلطة السياسيّة، في الجماعة نفسها أو في الأجهزة التي تمثّل الدولة تتمّ دوما ضمن
حدود النظام الأدبيّ ومن أجل المصلحة العامة، التي نتصوّرها بطريقة ديناميكيّة، ووفقا لنظام قانونيّ وُضع، أو يجب وضعه، بطريقة شرعيّة. فالمواطنون مجبرون حينئذ على الطاعة، ومن هنا تنشأ، دون شك، مسؤوليّة الذين تسلّموا مقاليد الحكم وعظمتهم ودورهم”.
وهناك قول جار يلفت النظر إلى حالة الفقراء فيقول: “إن البطون الخاوية لا تسمع”. وهذا صحيح. وأكثر الثوراة التي قامت في العالم مردّها إلى حالة الفقر التي يتخبّط فيها الفقراء على وجه الاجمال، ويستجيرون للخروج من حالتهم، وليس من مجير، فيلجاؤن إلى العنف، وهو مدمّر.
وقد لفت قداسة الحبر الأعظم البابا بندكتوس السادس عشر النظر، في رسالته التي أصدرها في الأول من كانون الثاني من هذه السنة في مناسبة الاحتفال بيوم السلام العالميّ، إلى الفقر في العالم، فقال: “هناك مكان ثالث هو موضع انتباه في برامج كفاح الفقر، ويُظهر الحجم الأدبيّ الباطنيّ لهذه الآفة، وهو فقر الأولاد. عندما يضرب الفقر إحدى العائلات، فالأولاد هم ضحاياه السريعة العطب: إن نصف الأشخاص الذين يعيشون في حالة فقر هم اليوم تقريباً من الأولاد. واعتبار الفقر، بوضع أنفسنا إلى جانب الأولاد، يقود إلى الأخذ بعين الاعتبار كأولويات الأهداف التي تهمّهم مباشرة كمثل العناية بأمهات العائلات، والعمل التثقيفيّ، والوصول إلى التطعيم، والعناية الصحيّة، ومياه الشرب، والمحافظة على البيئة، وخاصة، الالتزام بالدفاع عن العائلة، واستقرار العلاقات في داخلها. وعندما تضعف العائلة، يقع الضرر، دونما شك، على الأولاد. وحيثما لا حماية لكرامة المرأة، فالذين يتحمّلون العواقب هم الأولاد أولاً ودائماً”.
وينهي قداسته هذه الرسالة بالقول: “إن البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته السنة المائة حذّر بالنسبة إلى الفاقة من “تطليق العقلّية التي تعتبر الفقراء – أشخاصاً وشعوباً – كعبء، وكمزعجين يزعمون أنّهم يستهلكون ما ينتجه الأخرون. إنّ الفقراء – على ما كتب – يطالبون، عن حقّ، بنصيبهم من الخيور الماديّة، وبوضع امكانيات العمل، لديهم لكي يوجدوا عالماً أكثر عدالة، واكثر ازدهاراً، بالنسبة إلى الجميع. وفي الواقع المعولم الحاليّ، يبدو دائماً بوضوح أكبر أنّ السلام لا يُبنى الا اذا تأمّنت للجميع امكانيّة نموّ معقول: عاجلاً أم آجلاً، في الواقع، يجب على الجميع أن يدفعوا نتائج اعوجاج الأنظمة الجائرة. إنّ بامكان عدم الأدراك وحده أن يقود إلى بناء بيت مذهّب وحوله صحراء مقفرة. إن العولمة وحدها لا يمكنها أن تبني السلام، وخلافاً لذلك، في أحوال عديدة، إنّها تتسبب بانقسامات وصراعات. وهذه تكشف بالأحرى عن حاجة: وهي حاجة التوجّه إلى هدف تضامن عميق يريد الخير لكلّ من الناس ولهم جميعاً. يجب اعتبار العولمة، بهذا المعنى، مناسبة مؤاتية لتحقيق شيء هامّ في كفاح الفقر ووضع الموارد، التي كان حتى اليوم يصعب تصوّرها، في تصرّف العدالة والسلام”.
والعالم يعاني اليوم من الخلل في النظام المالي الذي يسوده. وهناك خسائر كبيرة جدًّا أصابت بعض البلدان، ومنعتها من التقدّم المرتجى، وهي تتخبّط اليوم في أزمة كبيرة لا تعرف كيف تخرج منها. وهذا ما يتسبب بعجز يعوق مثلا محاربة الأمراض المنشرة في أحد البلدان.
وقد لفت قداسة البابا بنديكتس السادس عشر في رسالته في مناسبة يوم السلام العالميّ لهذه السنة إلى وجوب محاربة الأمراض المستشرية بقوله: “هناك مصدر آخر للقلق، وهو الأمراض المستشرية، مثلاً، الملاريا، والسلّ، والسيدا، التي، بقدر ما تضرب قطاعات السكان المنتجة، تؤثّر تأثيراً كبيراً على تضخيم أوضاع البلد العامة. والمحاولات للجم عواقب هذه الأمراض على السكان، لا تبلغ دائما نتائج كبيرة. وقد يصدف، علاوة على ذلك، أن البلدان التي وقعت ضحيّة هذه الأمراض المستشرية، يجب أن تحتمل، لمواجهة هذا الأمر، ابتزاز الذين يشترطون المساعدات الاقتصادية بانتهاج سياسة تضاد الحياة. ومن الصعب خاصة محاربة السيدا، التي هي سبب مأساوي للفقر، اذا كانت الاشكاليات الأدبيّة المرتبطة بانتشار الداء لا تواجه. يجب أولا ان توضع موضع العمل الحملات التي تعلّم، خاصة الشباب، مبادئ جنسية تتفق وكرامة الانسان، ومبادرات تمت في هذا المجال وحققت نتائج مهمّة، بتخفيضها انتشار المرض. ويجب بعدئذ أن توضع في تصرّف الشعوب الفقيرة أدوية وعناية ضروريّة، وهذا يفترض التزاماً قويًّا لمصلحة البحث الطبّي، واستنباطات علاجية، وتطبيقاً مرناً، عند الحاجة، لقواعد عالميّة تسيّر الملكيّة الفكريّة، لكي تُضمن لكلّ الناس العناية الصحيّة الأساسيّة الضروريّة”.
الخـاتمـة
حدّد الفلاسفة الانسان بقولهم عنه: “إنّه حيوان ناطق”. فاذا حُرم وظيفة النطق، فلا يبقى منه إلا الحيوان. طبعاً هناك اناس لا يقوون على الكلام كالخرس والبكم ومن أصيبوا بعاهة أو مرض منذ ولادتهم أو بعدها. وهم لم يفقدوا صفتهم الانسانيّة. وهذا يعني أن الانسان زيادته أو نقصه في التكلّم، على ما يقول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى. ولا يدلّ على رحجان عقله أو خفّته، وما لديه من ثقافة أو ما أصابه من جهل، الاّ كلامه. واليكم ما يقول القديس يعقوب في اللسان: “إنّ السفن، مهما كانت ضخمة، والرياح شديدة تدفعها، فان دفّة صغيرة جدّاً تقودها إلى حيث يش
اء الربّان. وكذلك اللسان، مع أنه عضو صغير، فهو يفاخر بأمور عظيمة. وها ان شرارة صغيرة تحرق غابة كبيرة! واللسان أيضاً نار، انّه عالم الأثم. اللسان جُعل بين أعضائنا، وهو الذي يلّوث الجسد كلّه، ويُلهب عجلة الحياة، وتلهبه جهنم. فكلّ جنس من الوحوش، والطيور، والزحافات، والحيوانات، البحرية، يمكن اخضاعه، ولقد أخضعه الجنس البشري. أمّا اللسان، فلا يستطيع أحد من الناس أن يُخضعه. إنّه شرّ متقلّب، ممتلئ سمًّا مميتًا. به نبارك الرب الآب، وبه نلعن الناس، الذين صُنعوا على مثال الله. من الفم الواحد تخرج البركة واللعنة، فلا ينبغي، يا إخوتي، أن يكون الأمر هكذا. هل يفيض الينبوع بالعذب والمرّ من مجرى واحد؟ وهل يمكن يا اخوتي، أن تؤتي التينة زيتوناً أو الكرمة تيناً؟ كذلك الينبوع المالح لا يمكنه أن يؤتي ماء عذباً
وفي هذه الأيام لا نسمع إلا ألسنة تنطلق على هواها، دون رقيب أو حسيب، وهي تحمل ما لم يألفه اللبنانيون من ذي قبل، من كلام مقذع، وألفاظ تحقيريّة، ومفردات تنحدر بالناس إلى مصاف الحيوانات. وهذا مخز ومخجل. وهذا دليل على انحدار في الأخلاق، ونفوس ملأها الحقد، وفتكت بها الضغينة. والكتاب المقدّس يقول: “الانسان الغضوب يثير النزاع، والرجل المتسّخط كثير المعاصي”.
وليس بخاف على أحد من اللبنانيين أن الظرف الذي نعيش فيه هو ظرف عصيب، يقتضي له الكثير من الوعي والمرونة، وأخذ النفس بالشدّة، وضبط الألسنة عن كلام السؤ، وان هناك من يتربصّون بوطننا، ويتحيّنون غفلة منا، لينقضوا عليه، ونحن لاهون عن ذلك، ان لم يكن من بيننا من هم ضالعون، ولا يهمّهم من الأمر إلا تبؤّ مناصب عالية في السلطة، ولو كان ذلك على جثث الضحايا، وأشلاء البلد.
ولنسأل الله، بشفاعة والدته البتول، أن ينير منا العقول، ويفتح العيون، ويهدينا سواء السبيل، لنُقبل على بعضنا البعض بالمحبّة، بحيث يصحّ فينا ما كان يقوله الوثنيون عن المؤمنين الأولين في بدء المسيحية: “انظروا كم يحبّ بعضهم بعضاً”. ولنستمع إلى ما يقوله القديس بطرس في رسالته الثانية: “وكما كان في الشعب أنبياء كذّابون، كذلك أيضاً سيكون فيكم معلّمون كذّابون، يدسّون بدعا مهلكة، وينكرون السيّد الذي افتداهم، فيجلبون على أنفسهم هلاكاً سريعاً.
ولنلتفت إلى العذراء مريم، سيّدة لبنان، لنسألها، أن تبسط ذراعيها على هذا الوطن وأبنائه، وترعاهم بعين العناية والعطف، وتكون حاميتهم، وإلى جانبهم، في ما يتهدّدهم من ضيق ومخاطر. فهي الشفيعة المشفعّة، وأم السيّد المسيح، وأمّنا الرؤوم التي تعوّد آباؤنا وأجدادنا أن يلجأوا اليها ابّان المحن والملّمات، وما خيّبت يوماً رجاءهم. تحقيقا لما قيل فيها: “من كان للعذراء عبداً، فلن يدركه الهلاك أبداً”.