بقلم الأب هاني باخوم
روما، الأربعاء 13 يناير 2010 (zenit.org). – الله يتراءى مجدّداً لابراهيم، كما رأينا في المرّة السّابقة، ويكلّمه من جديد، فالكلام علامة حبٍّ. الله يحبّ ابراهيم فعلاً، يظهر هذا في كلّ احداث حياته؛ عندما نزل الى مصر وترك امراته لفرعون، الله تراءى له ورحمه وأنقذه من خطيئته. كذلك فعل عندما أخذ هاجر كأمّ لابنه، أعاده إلى الطّريق، إلى الوعد. محبّة الله تظهر، لابراهيم ولكلّ انسان، في المغفرة، والتي ليست فقط مسح للخطيئة ونسيانها، بل شيء اعمق واجمل بكثير، هي ان يرى الانسان انّ الرّبّ قادر ان يحول تلك الخطيئة، ويستخرج منها خيراً اعظم من الشّرّ الذي جلبته. تبقى نتائج وتوابع الخطيئة، تبقى الجروح وآلامها، الّتي لا مفرّ منها، إنّه قانون الطّبيعة. لكن الأعظم، ان الله يحطمها من داخلها يكسر شوكتها، ينزع سلطانها، ويستخرج منها الخير. هذا هو الخبر المفرح، والذي هو عثرة لليهود، وحماقة لليونانيين كما يقول القديس بولس ( اقور 1: 20 – 23).
موت المسيح، والذي هو اعلان لكِبَر خطيئتي وخطيئتك، اكبر شرّ، موت البرىء، موت البار، موت ابن الله. هذا الشّرّ والذي لا يقارنه اي شرّ اخر، الرّبّ استخرج منه خلاصاً ابدياً لكلّ من يؤمن به. لدرجة ان القديس أغسطينوس يقول “معصية سعيدة، لانها استحقت مخلصاً عظيماً كهذا” .وكأنّ به يشكر المعصية لانّها جعلتنا نرى المسيح المتجسد. تلك هي الرّحمة، تلك هي المغفرة الحقّة، قدرة تنزع شوكة الشّرّ وتحوله إلى خيرٍ، خير اعظم، حتّى وان بقيت توابع تلك الخطيئة.
تلك الرّحمة والمغفرة تجعل من “ابرام” “ابراهيم”، وتحوله من شخص عادي، كلّ ما يأمل به ابن يرثه، إلى شخص يتحقق به خلاص من اجل الشّعوب، تجعل منه اباً ليس فقط لابن وحيد، بل لأمم ستُبَاركَ بسببه. هذا التّحول من ابرام لابراهيم، ليس بفضل قوته الذّاتيه، وحسن اخلاقه وتربيته الحسنة، بل بسبب اختيار الله له واختباره لرحمته.</p>
تلك الرّحمة تجعل منه شفيعاً!! نعم شفيعاً للخاطئين، لمن هو محتاج إلى رؤية تلك الرّحمة وخطيئته تمنعه من رؤيتها. ابراهيم يصبح شفيعاً، بدون ان يطلب منه احد ذلك، بدون ان يطلب الخاطئون منه ذلك، لكن فيض الرّحمة التي اختبرها وجمالها تحثه وتدفعه كي يجعلها تصل لمن لم يختبرها بعد. كيف؟ ماذا حدث؟
يقول الرّبّ “إن الصّراخ على سدوم وعمورة قد اشتد وخطيئتهم قد ثقلت جداً”. (تك 18: 20). سدوم وعمورة، مدنيتان امتلاْتا بالخطيئة، لدرجة ان الصّراخ عليهما اشتدّ، وهو تعبير يوضح ان توابع تلك الخطايا ازدادت وازدادت. كثيرون يتألمون بسببهما ويصرخون ضدهما. فيقرّر الرّبّ ان يوقف طوفان ذلك الشّرّ، ان يضع حداً له: يهلك المدينتين. وهنا يتقدم إبراهيم ويقول للرّبّ:”احقاً تهلك البارّ مع الشّرير؟ لعله يوجد خمسون باراً في المدينة، احقاً تهلكها ولا تصفح عنها من اجل الخمسين باراً الذي فيها؟ حاش لك ان تصنع مثل هذا ويموت البار مع الشّرير. حاش لك!!” (تك 18: 23 ت) وهكذا يستمر ابراهيم الى ان يصل بالرّقم الى عشرة ابرار كي يخلص المدينة.
نعم ابراهيم يصبح شفيعاً. هو اختبر رحمة الله ويرغب ان تصل تلك الرّحمة للآخرين. تلك هي رغبة ابراهيم، وهي بالاحرى رغبة الله. فماذا يريد الله الا ان يتوب الخاطىء ويرجع عن طريقه فيحيا؟ الشّفيع اذاً هو الذي يدخل في مشيئة الله ويرغب في نفس المشيئة ويطلبها ويتضرع من اجلها. فيعطي صوته لتلك المشيئة كي تتجسد، يعطي كيانه لتلك المشيئة كي تظهر الآن وفي هذا المكان ( انظر تعليم الكنيسة الكاثوليكية 2635). تلك هي الشّفاعة وتلك هي ايضاً الصّلاة العميقة. فالمسيح يقول “يا ابت، إن امكن الامر، فلتبتعد عني هذه الكأس، ولكن لا كما انا أشاء، بل كما انت تشاء!” (مت 26: 39).
الصّلاة للذّات او للآخرين، اي الشّفاعة، لا تعني محاولة تغيير قرار الله ومشروعه، بل هي تقديم ما نرغب به الى الله، مصطحبة بالرّغبة الاعمق لتتميم ما يرغبه الله، لأنّه هو الذي يعرف في العمق ما يحتاج اليه الانسان. الشّفاعة هي بالفعل “أسمى خدمة لقصد الله” (تعليم الكنيسة الكاثوليكية 2683).
ابراهيم يتشفع للمدينة، يطلب النّجاة لها، لانّه يعرف ان هذه هي رغبة الله.
لكن هل تنتهي قصة ابراهيم بانه اصبح شفيعاً؟ لا تلك البداية. ابراهيم ينتظر الوعد، ينتظر ان يرى يوم الخلاص……..للمرة القادمة.