بقلم الأب فرنسوا عقل المريمي
الخميس 10 فبراير 2010 (zenit.org). –تحت ظلال الإمبراطوريّة الرّومانيّة الشّرقيّة، في ناحية أفامية حاضرة سوريّا الثّانية آنذاك، ولدت “الأمّة المارونيّة”، في مطلع القرن الخامس، وسط الكنيسة السّريانيّة الأنطاكيّة، عندما التفّّ بعض التّلاميذ الزّهاد من السّريان، حول كاهن ناسك عابد قدّيس، يدعى مارون، كان صديقا للذّهبيّ الفم، عاش على جبل في ناحية القورشيّة من سوريّا الثّالثة (1) ، كما أشار تيودوريطس أسقف قورش في تاريخه الكنسيّ، فارتفع بعد موته بناء دير كبير بالقرب من نهر العاصي في ناحية أفاميا، كان مهد “الأمّة السّريانيّة المارونيّة”.
النّاسك مارون الذي عرفه تيودوريطس شخصيّا إذ لم يكتف فقط بسرد سيرته، ارتضى لنفسه حياة الزّهد والتّقشّف والعيش في العراء، ووجد في مقاطعة قورش المذكورة، معبدا وثنيّا مهجورا، كرّسه لعبادة الإله الحقّ، حيث سطع نور قداسته من على ذلك الجبل، إذ صنع الله على يده معجزات كثيرة، فوفد النّاس إليه من كلّ حدب وصوب؛ وعندما رقد برائحة القداسة عام 410 كما يرجّح المؤرّخون، اختلف مسيحيّو تلك النّاحية على حيازة جثمانه، فحصل عليه أخيرا سكّان البلدة الكبرى في القورشيّة، والتي لم يُعرف اسمها حتّى اليوم بشكل علميّ دقيق وأكيد. وبات النّاس كلّ سنة يحيون ذكراه، منذ أيّام تيودوريطس.
كانت كنيسة أنطاكية في العصور الأولى للمسيحيّة، تضمّ جماعات مختلفة من المؤمنين بيسوع، يمكننا اختزالها بالأراميّين أي السّريان، وبالبيزنطيّين، غير أنّهم كانوا جميعهم في الأصل شعبا واحدا، تجمعه “ليتورجيّة” واحدة، في لغتين مختلفتين: السّريانيّة، لغة الشّعب وهي أكثر انتشارا في الأرياف والجبال (2)، وبخاصّة في سوريّا، وبلاد الرّافدين، وفلسطين، وفينيقيا الجبليّة؛ واللغة اليونانيّة التي كانت منتشرة في المدن المهمّة، وهي لسان الحكّام والمثقّفين.
أمّا الموارنة فهم في الأصل أراميّون قاموا بادئ ذي بدء بالقرب من أفاميا، ثمّ انتشروا في وادي نهر العاصي (3) ، وسط بيئة قد انقسمت فيها الجماعات المسيحيّة المذكورة، عقائديّا وفكريّا إلى فئات مختلفة كالنّساطرة الذين ذهبوا بأنّ في المسيح أقنومين، وقد شجب معتقدهم مجمع أفسس الثّاني عام 431؛ وأتباع الطّبيعة الواحدة، أو اليعاقبة، الذين زعموا أنّ في المسيح طبيعة واحدة، وقد رفض مذهبهم مجمع خلقيدونيا عام 451 الذي كان بمثابة محطّة مهمّة في تاريخ الكنيسة المارونيّة (4) ؛ والجماعة الأورثوذوكسيّة، أي ذات الإيمان المستقيم، لأخذها بالقرارات المجمعيّة الكنسيّة، وقد عرفت فيما بعد بالملكيّة، إذ كانت تتبّع تعاليم إمبراطور القسطنطينيّة.
في خضمّ تلك الغوغائيّة العقائديّة، انبثقت “ظاهرة صلاة ونسك عفويّة” دعيت فيما بعد بالمارونيّة، وامتدّت جذورها من أنطاكية وقورش حيث قال تيودوريطس إنّ: “البستان المزهر اليوم في منطقة قورش، مارون غارسه”. فبُعيد مجمع خلقيدونيا (451) المذكور، راحت المارونيّة تتألّق في حنايا دير خاشع، وفي جواره، على ضفّة نهر العاصي، عنينا به دير “بيت مارون” القديم على مقربة من مدينة حماة، حيث قبر القدّيس النّاسك (350-433) كما يقول لامنس Lamens (5)، وكان يقطنه نحو 800 راهب من أتباع مارون، متأمّلين وقدّيسين على ما ذكره الدّويهي (6) والمسعوديّ قبله، ثمّ أخذت تنمو وتكبر رويدا رويدا، وتكثر عددا وفكرا ولاهوتا، تاركة أثرها العميق على سائر الأديار المجاورة.
مراجع:
1 كانت سوريّا في تلك الحقبة، تقسم إلى ثلاثة أقسام: سوريّا الأولى وحاضرتها أنطاكية، سوريّا الثّانية وحاضرتها أفامية وسوريّا الثّالثة وحاضرتها هيرابوليس أو مَنْبِجْ.
2 راجع، بطرس فهد، الكنائس الشّرقيّة عبر التّاريخ، جونيه 1972، ص. 54-82.
3 Cf. H. Lammens, Le Liban, Beyrouth 1914, p. 50.
4 راجع، بطرس فهد، الكنائس الشّرقيّة…، ص. 30.
5 راجع، هنري لامنس، تسريح الأبصار في ما يحتوي لبنان من آثار، مشرق (مجلّة) 4 (1903) 141.
6 أسطفانوس الدّويهيّ، الشّرح المختصر في أصل الموارنة وثباتهم في الأمانة وصيانتهم من كلّ بدعة وكهانة، (نشره مع ترجمته اللاتينيّة، بطرس فهد)، جونيه 1974، ص. 115.