بقلم الأب هاني باخوم

روما، الأربعاء 31 مارس 2010 (Zenit.org). –بعد لحظات الصمت السابقة، كان يسوع يعلم أَن كل شىء قد تم، فقال: "انا عطشان" (يو 19: 28). تلك هي الكلمة الخامسة. البعض رأوا فيها رغبة بشرية عادية؛ انسان يتألم، فيطلب الماء كاحتياج طبيعي. لكن الاغلبية  يرون وراء هذا الطلب شيئا أعمق.

يقول يوحنا: كان يسوع يعلم أن كل شىء قد تم، فقال: "انا عطشان" (يو 19: 28). كلمة "كل شىء" تجعلنا نفهم ان المقصود هي الاحداث التي تمت حتى الان. لكن الكلمة المستخدمة هي نفس كلمة "كل ما" في الاية التي تقول:"ورأى الله كل ما صنعه، فاذا هو حسن جدا" (تك 1: 31). يقصد يوحنا "بكل شىء" هذا المشروع الاول الذي بدأه الله، هذه الخليقة التي خلقها، هذا البدء الذي اطلقه بسبب حبه للانسان، وقد دخلت فيه الخطيئة بسبب ابليس، ففقد جماله الاولي. لكن الله لم يتركه، لم يترك هذا البدء، هذه الخليقة، فدبر مشروع خلاصي لها. هذا هو ال"كل شىء". هذا الخلاص.

 كلمة "تم" هي ايضاً اساسية. تُرجمت بكلمة "انتهى" ومرات "حدث". لكن المعنى الاصلي للكلمة اليونانية هو "وصل الى هدفه، الى غايته". فيصبح تعبير يوحنا: كان يسوع يعلم أن كل شىء قد وصل الى هدفه، اي ان كل الخليقة وصلت الى ما خُطط لها. مشروع الاب الخلاصي قد تحقق. الان يسوع ينظر من على الصليب، ويجد ان هناك خليقة جديدة، مفدية، حسنة في عيني الرب كالخليقة الاولى.

فقال يسوع: "انا عطشان" كما قال للمراة السامرية من قبل:"اسقيني" (يو 4: 7). لانه كان يريد ان يعطيها ماء أخر. ماء من يشرب منه لا يعطش ابداً. الماء الحي، كما يقول يوحنا، اي الروح القدس الذي سيناله المؤمنون عند ساعة مجده (يو 7: 38- 39). وها هي الان ساعة مجده. المسيح يريد ان يعطي هذا الروح لكل البشرية. لذلك يطلب من جديد الماء من صالبيه كرمز لكل انسان ، كما طلب من السامرية،  لكي يعطينا بدورنا الماء الحي.

"أنا عطشان" كلمة لا تشير فقط لعطش الماء، لكنها تعني ايضاً الرغبة والاشتياق لشىء ما. يقول المسيح: "طوبى للجياع والعطاش الى البر فإنهم يُشبعون" (مت 5: 6). وايضاً المزمور:"عطشت أليك نفسي" (مز 63: 2). فهل عطش المسيح هو في العمق اشتياق لملاقاة الاب؟ هل هو رغبة للرجوع لحضن الآب حاملاً معه ناسوته، اي بشريتنا المفدية، عربون لما ينتظرنا من مجد سماوي، وحياة ابدية؟ عطش اذاً لخلاص الكثيرين؟

"أنا عطشان" يقول المسيح، فأعطوه اسفنجة مبللة بالخل. هكذا كما يقول المزمور:"سقوني في عطشي خلاً " (مز 69: 22). المرنم في المزمور يتكلم عن الامه وعذابه. عن الظلم الذي يقع عليه واهانة اعداءه له، لدرجة انهم في عطشه اعطوه خلاً بدل الماء. ويستمر ويقول سيدفعون ثمن كل هذا، سخط الرب سينزل عليهم، ونار غضبه ستأكلهم.

هكذا ايضاً المسيح يأخذً بدلاً من الماء خلاً. وبهذا تصل الى القمة خطيئة الانسان ورفضه لله. والان بحسب المزمور يأتي وقت غضب الرب، وقت النار السماوية التي تسقط من السماء كي تلتهم اعداء قدوس الرب. لكن هذا لا يحدث، فمكان النار نجد المسيح الذي يسلم روحه لاعدائه. يسلم الروح القدس. فبدلاً من غضب الرب وحكمه بالانتقام، يُنزل على من كان تحت الصليب الرحمة والمغفرة. هذا هو حكم الرب، رحمة ومغفرة. لان المسيح اخذ عنا ما كنا نستحقه.

بالفعل كل شىء قد تم، كل شىء وصل لهدفه النهائي. الخطيئة الساكنة في البشر وصلت لنهايتها: اسلمت ابن الله للموت. وما صنعه الله وصل ايضاً لهدفه: التخلص من شوكة الخطيئة، بتسليم نفسه للخاطئين. هكذا هَزمَ الشر وأهلكه بالمغفرة والرحمة.

كل شىء بالفعل قد تم، قد وصل لغايته. هكذا يقول المسيح بكلمته السادسة:"كل شىء قد تم" (يو 19:30). الان هناك خليقة جديدة مفدية بدم الحمل، تحمل روح الله. كل شىء قد وصل لهدفه، فها هي العروس قد تزينت، وارتدت ثياب النقاء والمجد في انتظار عودة عريسها، وإن كان عليها ان تنتظر وتصارع حتي يأتي.

ولكن تبقى الكلمة الاخيرة التي سيقولها المسيح قبل ان يسلم روحه.....للمرة القادمة.

زمن صوم مبارك.

ما بين الجلجلة والقيامة

بقلم راجي الراعي*

روما، الثلاثاء 30 مارس 2010 (Zenit.org). – أيّها الراقدُ في أحضانِ الله، يحلُمُ حُلمَ الأزل.

      أيّها الملكُ الأكبرُ الجالسُ على عرشِ الموتِ، المتوَّجُ بالأشواك.

      أيّها المُشترعُ الذي خطَّ شريعةَ التضحيةَ واتخذَ لها الصليبَ قرطاساً، والمِسمارَ قلماً، ودمَ الشوكِ مداداً.

      أيّها العاصرُ قلبه خمراً في كأسِ الخليقة.

      أيّها الذي يمتزج بالقرون ويوآخيها، ويريد الإنسانيَّة سيدةً وتأبى أنّ لا تكون عبدةً، ويحاول أنّ يدنيَ الناس من الآلهة وهم يعشقون التراب. وأنّ يحطِّم سيوفهم وهم يشحنونها.

      أيها الفاتحُ بسيفٍ أراده صليباً.

      أيّها الباسطُ ذراعيك على الصليب كأنَّهما جناحان يتجاذبهما الموتُ والخلود، والأكوانُ تعول من حولك والخليقةُ ترتعش والظالِمُ يحسبُ أنّه فاز والخائن يضْحَك وأنتَ صابر.

      أيّها المعلِّمُ الأكبر الذي قال كلمته وتلا انجيله فشَعَرَ الإنسانُ أنَّ له خيالاً وضميراً وكرامةً. 

      أيّها المسيح !

      في هذا اليوم تنقلبُ الكرةَ الأرضيَّةَ كرةَ مدفع، تنطلق تحت قدمَيك الداميتَين اكباراً واجلالاً وتتوارى الشمسُ وينطفئ النورُ في كلِّ كوكبٍ ونجمةٍ !

      إنَّ هذا اليوم هو يوم الظلم والغدْر والخيانة والشرّ والظمأ إلى الدم الزكي، يومهم… وغداً يومك… غداً تنفضُ عنك الأكفانَ وتنهض من القبرِ فتضعهم بكفِّ السماء وتنتضي صليبك سيفاً يؤدِّبهم. 

      أيّها المسيح !

      هذا الصليبُ هو انجيل أناجيلك وآية آياتك، هو لوحة النجاةِ كلَّما أشرقْت السفينة على الغرْقِ في بحرِ الحياة.

      أيّها السيّد ! أنتَ الآن في لحدِك وفي الناس من لا يزال مُلحِداً ومَن يُلحِد الآن بريئاً لا ذنب له إلاّ أنَّه على حقّ !

  أنتَ في الترابِ في هذه الساعة وفي الناس مَن لا يلذ له في هذه الساعة إلاّ أنّ يهيله على رؤوس الأنقياء الصالحين الذين مُتَّ باسمهم وعلى جبين الحقّ الذي تواريتَ ليظلَّ شامخاً !

      أنتَ على الصليب لتفتدي الخلقَ وفي الخلقِ مَن لا يفديك ومَن يمرُّ بكَ حاملاً السيفَ البتّار والمعولَ الهدّام والمطرقةَ الساحقة وبين جنبَيه تتلّوى الأفاعي وعلى يدَيه أثر الدمِّ وفي فمه كلمة ُ يهوذا !!!

      أنتَ الآنَ بين الصليب والقيامة تتأهَّب للنهوض وها هي روحك في ظلال الموت تجتاز الهزيعَ الأخير من ليلِ آلامِكَ وبعدَ ساعاتٍ ينبلج فجُر القيامة. لإنَّك لم تضجع في القبر إلاّ لتحلم حلمَكَ الأكبر وها هو نسيج حلمك بدأتْ تظهر فيه خيوط الفجر.

      ها هو حجرك يثوب إلى رشده ويكفُّ عن الخيانة ويتفتت في يدك الجبّارة التي أخذت أصابعها تمزِّق الكفن.

      وأنا الجاثمُ بين يدَيك الآن أعدُّ الدقائق التي تفصل بينك وبين قيامتك، المُترقِّب تلك اللحظة الخالدة التي ينقلب فيها الحجر عن جلالك، أنا السائر في حلمك، المُتجلبب برداءك، الحامل صليبك سأكون أوَّلَ الواقفين إلى جانب المجدليّة حو ذلك الحجر…