بين مارون والموارنة

الفاتيكان، الجمعة 19 فبراير 2010 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي النص الكامل لمقالة الأب فرنسوا عقل المريمي بعنوان “بين مارون والموارنة

مارون وأتباعه

تحت ظلال الإمبراطوريّة الرّومانيّة الشّرقيّة، في ناحية أفامية حاضرة سوريّا الثّانية آنذاك، ولدت “الأمّة المارونيّة”، في مطلع القرن الخامس، وسط الكنيسة السّريانيّة الأنطاكيّة، عندما التفّ بعض التّلاميذ الزّهاد من السّريان، حول كاهن ناسك عابد قدّيس، يدعى مارون، كان صديقا للذّهبيّ الفم، عاش على جبل في ناحية القورشيّة من سوريّا الثّالثة (1) ، كما أشار تيودوريطس أسقف قورش في تاريخه الكنسيّ، فارتفع بعد موته بناء دير كبير بالقرب من نهر العاصي في ناحية أفاميا، كان مهد “الأمّة السّريانيّة المارونيّة”.

     النّاسك مارون الذي عرفه تيودوريطس شخصيّا إذ لم يكتف فقط بسرد سيرته، ارتضى لنفسه حياة الزّهد والتّقشّف والعيش في العراء، ووجد في مقاطعة قورش المذكورة، معبدا وثنيّا مهجورا، كرّسه لعبادة الإله الحقّ، حيث سطع نور قداسته من على ذلك الجبل، إذ صنع الله على يده معجزات كثيرة، فوفد النّاس إليه من كلّ حدب وصوب؛ وعندما رقد برائحة القداسة عام 410 كما يرجّح المؤرّخون، اختلف مسيحيّو تلك النّاحية على حيازة جثمانه، فحصل عليه أخيرا سكّان البلدة الكبرى في القورشيّة، والتي لم يُعرف اسمها حتّى اليوم بشكل علميّ دقيق وأكيد. وبات النّاس كلّ سنة يحيون ذكراه، منذ أيّام تيودوريطس.

    كانت كنيسة أنطاكية في العصور الأولى للمسيحيّة، تضمّ جماعات مختلفة من المؤمنين بيسوع، يمكننا اختزالها بالأراميّين أي السّريان، وبالبيزنطيّين، غير أنّهم كانوا جميعهم في الأصل شعبا واحدا، تجمعه “ليتورجيّة” واحدة، في لغتين مختلفتين: السّريانيّة، لغة الشّعب وهي أكثر انتشارا في الأرياف والجبال (2)، وبخاصّة في سوريّا، وبلاد الرّافدين، وفلسطين، وفينيقيا الجبليّة؛ واللغة اليونانيّة التي كانت منتشرة في المدن المهمّة، وهي لسان الحكّام والمثقّفين.

أمّا الموارنة فهم في الأصل أراميّون قاموا بادئ ذي بدء بالقرب من أفاميا، ثمّ انتشروا في وادي نهر العاصي (3) ، وسط بيئة قد انقسمت فيها الجماعات المسيحيّة المذكورة، عقائديّا وفكريّا إلى فئات مختلفة كالنّساطرة الذين ذهبوا بأنّ في المسيح أقنومين، وقد شجب معتقدهم مجمع أفسس الثّاني عام 431؛ وأتباع الطّبيعة الواحدة، أو اليعاقبة، الذين زعموا أنّ في المسيح طبيعة واحدة، وقد رفض مذهبهم مجمع خلقيدونيا عام 451 الذي كان بمثابة محطّة مهمّة في تاريخ الكنيسة المارونيّة (4) ؛ والجماعة الأورثوذوكسيّة، أي ذات الإيمان المستقيم، لأخذها بالقرارات المجمعيّة الكنسيّة، وقد عرفت فيما بعد بالملكيّة، إذ كانت تتبّع تعاليم إمبراطور القسطنطينيّة.

في خضمّ تلك الغوغائيّة العقائديّة، انبثقت “ظاهرة صلاة ونسك عفويّة” دعيت فيما بعد بالمارونيّة، وامتدّت جذورها من أنطاكية وقورش حيث قال تيودوريطس إنّ: “البستان المزهر اليوم في منطقة قورش، مارون غارسه”. فبُعيد مجمع خلقيدونيا (451) المذكور، راحت المارونيّة تتألّق في حنايا دير خاشع، وفي جواره، على ضفّة نهر العاصي، عنينا به دير “بيت مارون” القديم على مقربة من مدينة حماة، حيث قبر القدّيس النّاسك (350-433) كما يقول لامنس Lamens (5)، وكان يقطنه نحو 800 راهب من أتباع مارون، متأمّلين وقدّيسين على ما ذكره الدّويهي (6) والمسعوديّ قبله، ثمّ أخذت تنمو وتكبر رويدا رويدا، وتكثر عددا وفكرا ولاهوتا، تاركة أثرها العميق على سائر الأديار المجاورة. 

 

نشأة البطريركيّة والنّزوح إلى جبل لبنان

 

   شغر الكرسيّ البطريركيّ الأنطاكيّ الرّسميّ عام 609، في سوريّا الأولى، إثر احتلاله من قبل هرقل، ثمّ من العرب، وظلّ شاغرا حتّى سنة 640 إلى أن عيّن بطريرك القسطنطينيّة، سرجيوس، صديقه مقدونيو بطريركا على أنطاكية وهو من أتباع المشيئة الواحدة (7). فلم يتمكّن مقدونيو من القيام في الكرسيّ البطريركيّ بل أقام في القسطنطينيّة، ثمّ خلفه مكاريوس وتيوفانوس، وقطنا أيضا في القسطنطينيّة.

    بعد موت البطريرك تيوفانوس، حوالي سنة 686، لم تكن الظروف السياسيّة سانحة لانتخاب بطريرك جديد (8) ، وكان قد أوكل الكرسيّ الرّسوليّ منذ عام 649، إلى يوحنّا أسقف فيلادلفيا، مهمّة النيابة لبطريركيتيّ أنطاكيا وأورشليم.

    قد لا نستطيع في الحقيقة، أن نحدّد بدقّة تامّة تاريخ تأسيس البطريركيّة المارونيّة، نظرا للتّضارب الكبير في التّواريخ ولقلّة وفرة الوثائق القديمة، بالرّغم من شبه الإجماع السّائد لدى المؤرّخين الموارنة على أنّ تأسيس البطريركيّة حصل عام 686؛ ربّما لم يكن هذا التّاريخ على مقدار كبير من الدّقّة العلميّة، ولكن من المؤكّد، أنّ نشأة البطريركيّة قد تمّت ما قبل عام 746 بناء على ما أرّخه التّلمحري، بطريرك اليعاقبة، في حديثه عن الموارنة إذ كتب ما حرفيّته: “لا يزال الموارنة كما هم اليوم: يرسمون بطريركا وأساقفة من ديرهم”. إنّها شهادة قديمة موثّقة تؤكّد وجود هيكليّة كنسيّة مارونيّة ضمن التّواريخ المشار إليها، ثمّ شهدت بعد ذلك تنظيما كنسيّا متكاملا (9).

    كما نستنتج من خلال استقرائنا للتّاريخ المارونيّ أنّ دير مارون المذكور، كان يتمتّع باستقلاليّة مميّزة ويتقدّم على كلّ أديار تلك النّاحية؛ ومن هذا المنطلق، أجمع رهبانه على اختيار رئيسهم يوحنّا
مارون، بطريركا للموارنة، إذ كان باستطاعة البطاركة آنذاك أن يُنتخبوا من الرّهبان، وقد سيم البطريرك الأوّل، أسقفا على البترون، في جبل لبنان، وكان يتمتّع، حسب الدّويهيّ، بمسؤوليّات كنسيّة وسياسيّة على السّواء (10).

    عند نهاية القرن السّادس، بدأ الاضطّهاد يفعل فعله بالمسيحيّين ظلما وقتلا وتنكيلا وتهجيرا، وكان الموارنة الأوائل ما زالوا يقطنون سوريا الجنوبيّة والشّماليّة؛ إلا أنّهم لم يقووا على احتمال صليب الاضطهاد في سبيل إيمانهم ومعتقدهم، فشدّوا رحال السّفر، تاركين سهول سوريا الخصبة، وضفاف العاصي، قاصدين جبل لبنان الذي سوف يصبح فيما بعد وطنهم النّهائيّ.

     ومن المعروف لدى الجميع، أنّ سكّان لبنان الأصليّين هم الفينيقيّون، وقد كان معظمهم تجّارا بارعين يقطنون فينيقيا السّاحليّة، أي ما يسمّى اليوم بلبنان السّاحلي، أمّا سّكان الجبال فكان معظمهم من الآراميّين، وقد اعتنق قسم كبير منهم الدّيانة المسيحيّة منذ العصور الأولى، وأطلقوا إلى أنفسهم اسم السّريان كي يتميّزوا عن الآراميّين الوثنيّين، وقد أثبت علم الآثار اليوم، أنّ وجودا مسيحيّا ما، قد عرفه جبل لبنان قبل ما أمّه الموارنة، وهذا ما أشار إليه أيضا التّلمحريّ، عندما أكّد أنّ أحد عشر أسقفا من لبنان قد شاركوا في مجمع خلقيدونيا، سنة 451، أي قبل نشأة البطريركيّة المارونيّة (11).  ويذهب لامنس إلى أبعد من هذا التّاريخ، ويعزو ذلك إلى عهد الرّسل الذين أتوا إلى لبنان وعمّدوا معظم سكّانه (12). ثمّ عندما نُصّب يوحنّا فم الذّهب بطريركا على القسطنطينيّة (407-398) أرسل إلى لبنان بعض المبشّرين كي يزيلوا أثر ما تبقّى من الوثنيّة (13).

    هناك من يعتقد من جهّة أخرى أنّ دخولّ المسيحيّة لبنان تمّ على يد رهبان دير القدّيس مارون أنفسهم (14) ؛ لكنّنا نستبعد هذا القول لأنّ الحفريّات الأثريّة قد أثبتت وجود آثار مسيحيّة في لبنان تعود إلى القرون الأولى للمسيحيّة، أي قبل هجرة الموارنة إليه. وقد سبق وأكّد الأب لامنس في هذا السّياق، أنّ في تلك العصور، كانت تقطن بعض النّواحي اللّبنانيّة جماعة مسيحيّة ملكيّة، تتبع الطّقس الأنطاكيّ، ولم تكن تختلف عن الآراميّين عرقا، ولغة (15).

    أمّا حدود جبل لبنان الجغرافيّة، كما كانت في عصر الدّويهيّ، فامتدّت من القسم الشّماليّ أي مناطق جبّة بشريّ وبلاد البترون، وصولا إلى بلاد جبيل وكسروان من لبنان الحاليّ (16).

    في ذلك الجبل الأشمّ نزولا إلى عمق وادي قاديشا، أي وادي القدّيسين، انتشرت الأمّة المارونيّة، وراحت تنمو رويدا رويدا إلى أن أصبحت فيما بعد كنيسة بطريركيّة، تتحدّى التّاريخ والجغرافيا، بإيمان صلب كجبل لبنان.

    فغدا الموارنة خليّة جماعة عفويّة في ذلك الجبل ثمّ امتدّ وجودهم ليشمل المدن السّاحليّة، حريصين كلّ الحرص على تراثهم الأنطاكيّ العريق، ولغتهم السّريانيّة الأصليّة، ضمن حكم ذاتيّ وسط أنظمة تيوقراطيّة للبيزنطيّين والعرب، محافظين على إيمانهم وهويّتهم وحرّيتهم. ثمّ تحوّلت جماعتهم إلى كنيسة بطريركيّة، استمرّت بمحافظتها على بنيتها كأمّة، مما دفع ملوك فرنسا لويس التّاسع، ولويس الرّابع عشر والخامس عشر وبعض الباباوات إلى جانب مجمع نشر الإيمان، أن يدعوها في رسائلهم بالأمّة المارونيّة (17).

وهكذا نما الشّعب المارونيّ بانسجام مع نفسه، محافظا على هوّيته الأصليّة وخصائصه المشرقيّة وجذوره السّيرو-فينيقيّة، متّخذا لبنان وطنا روحيّا لرسالته، منتشرا في جميع أصقاع الأرض وأنظاره أبدا متجّهة إلى قورش وكفرحيّ حيث منسكة مارون في القورشيّة وَلَدت ديرا قرب حماة، والدّير ولد بطريركيّة أعطي لها مجد لبنان.

    فمارون هذا، هو شجرة سموّ الرّوح التي أثمرت الموارنة! وبين مارون والموارنة رسالة حبّ وإيمان ورجاء وحضارة قداسة.

المراجع:

 

1 كانت سوريّا في تلك الحقبة، تقسم إلى ثلاثة أقسام: سوريّا الأولى وحاضرتها أنطاكية، سوريّا الثّانية وحاضرتها أفامية وسوريّا الثّالثة وحاضرتها هيرابوليس أو مَنْبِجْ.

2  راجع، بطرس  فهد، الكنائس الشّرقيّة عبر التّاريخ، جونيه 1972، ص. 54-82.

3 Cf. H. Lammens, Le Liban, Beyrouth 1914, p. 50.

4 راجع، بطرس  فهد، الكنائس الشّرقيّة…، ص. 30.

5  راجع، هنري لامنس، تسريح الأبصار في ما يحتوي لبنان من آثار، مشرق (مجلّة) 4 (1903) 141.

6 أسطفانوس الدّويهيّ، الشّرح المختصر في أصل الموارنة وثباتهم في الأمانة وصيانتهم من كلّ بدعة وكهانة، (نشره مع ترجمته اللاتينيّة،  بطرس فهد)، جونيه 1974،  ص. 115.

7—V. Grumel, La Chronologie, Paris 1958, p. 447.

8 — راجع بطرس فهد، القدّيس مارون النّاسك وتاريخ الموارنة في لبنان والعالم، مصر 1990، ص. 69-71.

9 — Cf. B.Dib, Histoire de l’Eglise Maronite, Beyrouth 1962, p. 60-65.

10 —  Cf. T. Nujaim, La Maronité Chez Estéfan Duwayhi, Vol. II, p. 51.

11— راجع، بطرس فهد، لمحات تاريخيّة عن البطريركيّة المارونيّة الأنطاكيّة وعن مؤتمر البطاركة، عد. 32، 1999، ص. 21-23؛ راجع أيضا، بولس قرألي، “الموارنة في لبنان”، المنارة، 5، 6 (1949) 213-297.

12 — راجع، هنري لامنس، “أنطاكية والسّياحة”، المشرق (مجلّة)، 24 (1931) 599-605.

13 — Cf. H. Lammens, Le Liban…, pp. 113-114.

14 — أ. عضم، “دخول النّصرانيّة إلى جبل لبنان”، المنارة (مجلّة)، 11 (1931) 828-830.

15 —  Cf. H. Lammens, Le Liban…, p. 54.

16 — راجع، جورج هارون، أعلام القوميّة اللّبنانيّة، 2، اسطفان الدّويهيّ، بيروت 1981، ص. 115.

17 — Cf. J. Mahfouz
, l’essence du Maronitisme et son rôle dans la conservation du catholicisme en Orient
, Mexico 1979, pp. 13-14.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

* * *
الأب فرنسوا عقل، راهب مارونيّ مريميّ حائز على  دكتوراه في القانون الكنسيّ، من جامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، وبكالوريوس في الفلسفة واللاهوت من جامعة الرّوح القدس –الكسليك- في لبنان، وجامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، ودبلوم في الدّراسات العربيّة والإسلاميّة، في المعهد البابويّ للدّراسات العربيّة والإسلاميّة في روما. من مؤلّفاته: “شِعْر وْصَلا”، صدر عام 2001، و”أضواء على العلاقات السّياسيّة والقانونيّة بين البطريركيّة المارونيّة والدّولة اللّبنانيّة”،  صدر عام 2007.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير