بقلم روبير شعيب
الفاتيكان، الخميس 25 فبراير 2010 (Zenit.org). – لقد رأينا في مقالة سابقة بعنوان “الأسطورة المنطقية” وجوه ما نود أن نسميه الحداثة الأولى، وهي حداثة نظرية، مجردة تركز على عملية عقلنة النظرة إلى الإنسان، إلى الدين والله. أدت الحداثة الأولى إلى اعتبار الإيمان على ضوء لوغوس (فكر) محدود، ومنفصل عن الحياة وهكذا دخلت العقلية كعنصر مؤسس للفكر اللاهوتي، أدى إلى تجميد الدورة الحيوية القائمة بين حياة الإيمان وفهم الإيمان، بين عيش الإيمان ومحتواه.
ثم نظرنا، في مقالة أخرى إلى الحداثة الثانية المبنية على “أسطورة التقدم الأفقي“، التي فتحت السبيل واسعًا إلى مذهب أنسي ملحد. فباسم الإنسان تم إنكار صورة عن الله، هي بالأصل صورة مشوهة لا تتطابق مع الإله الحق والحي الذي يبشر به الإيمان المسيحي.
هاتين المرحلتين من الإصغاء لمعطيات وخصائص الحداثة، تفسح لنا المجال لكي نقوم بتفسير وتقييم أكثر موضوعية لهذه الحداثة. فكيف لنا أن نفهم الحداثة وأن نتحاور معها إذا لك نعي دينامياتها العميقة.
هذا وقد اخترنا التركيز على مفهوم الحداثة، لا لأننا نجهل أن الإطار الثقافي، الفلسفي والاجتماعي يتحدث الآن عن “ما بعد الحداثة”، بل لقناعتنا بأن هناك أبعاد عديدة من الحداثة ما زالت حاضرة وفاعلة في عمق ما بعد الحداثة. فهذه الأخيرة إنما تشكل في الوقت عينه ردة فعل، اكتمال، تجاوز وكشف عن الحداثة. هي ردة فعل على بعض أشكال الحداثة المتطرفة، وهي اكتمال-غير-مكتمل لبعد عواملها وتطلعاتها، وهي تجاوز لبعض مفاهيمها، وأخيرًا كشف واعتلان لبعض وقائعها الغامضة.
بكلمات أخرى، بالرغم من أننا نعيش في فترة تعود إلى تقدير ما يتخطى العقل، ونختبر ما يصفه بعض الباحثون بـ “عودة الآلهة” (R. Stark – M. Introvigne, Dio è tornato. Indagine sulla rivincita delle religioni in Occidente, Casale Monferrato 2003)، وبالرغم من أننا نعي سقوط وفشل أساطير الحداثة الكبرى (كلية قدرة العقل، المجتمع الكامل، صلاح الإنسان الجوهري، الشيوعية، العرق الصافي والامتياز العرقي، وحتى الديمقراطية والرأسمالية)، إلا أن مواضيع الحداثة مثل الاستقلالية، محورية العقل، الإلحاد، التطور إنما هي حاضرة وفاعلة – بشكل سلبي أو إيجابي – ولذا يجب علينا أن نعيرها حيزها من الإصغاء والاهتمام.
سنسعى في هذه المقالة، بعد أن استعرضنا في المقالتين السابقتين وجهين نعتقد أنهما أساسيين في الحداثة، أن نعرض وجهة نظر مستوحاة من الإيمان المسيحي، نستمدها من التمييز الروحي الذي يقدمه يسوع: “من ثمارهم تعرفونهم”.
(يتبع)