ميلانو، الإثنين 4 يونيو 2012 (ZENIT.org)- ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها البابا بندتكس السادس عشر خلال ترأسه قداس اختتام اللقاء العالمي السابع للعائلات نهار الأحد 3 يونيو 2012.
***
إخوتي الأساقفة الأعزاء،
الفعاليات الحاضرة،
أيها الإخوة والأخوات،
نشهد اليوم وقتًا عظيمًا من الفرح والشراكة في خلال احتفالنا بالذبيحة الإلهية: إنه لتجمع كبير يضم مؤمنين قدموا من دول عديدة ومختلفة، متّحدين مع خليفة بطرس. إنها صورة تجسد الكنيسة الواحدة الجامعة التي أسسها المسيح وهي ثمرة الرسالة التي ائتمن رسله عليها كما سمعنا في إنجيل اليوم: أن يذهبوا ويتلمذوا جميع الأمم، و”يعمدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس” (متى 28: 18-19). أود أن أحيي بكل مودة وتقدير كل من الكاردينال أنجيلو سكولا، رئيس أساقفة ميلانو، والكاردينال إنيو أنطونيللي، رئيس المجلس الحبري للعائلة، المنظمين الرئيسيين لهذا اللقاء السابع للعائلات الى جانب فريق العمل التابع لهما، و رؤساء الأساقفة المساعدين في ميلانو وجميع المطارنة الآخرين. يسرني أن أرحب بجميع الفعاليات الحاضرة هنا اليوم، كما أرحب ترحيبًا حارًّا بالعائلات، وأشكر مشاركتها!
يذكرنا القديس بولس من خلال القراءة الثانية اليوم، بأنه في العماد تلقينا الروح القدس الذي وحدنا بالمسيح كإخوة وأخوات وجعلنا أبناء للآب، حتى تمكنا من أن نهتف: “أبا، أيها الآب!” (راجع رومة 8: 15، 17). في تلك اللحظة حصلنا على شرارة حياة إلهية جديدة التي من المقدر أن تنمو حتى تكتمل نهائيًّا في مجد السماء؛ أصبحنا أعضاء في الكنيسة، عائلة الله، “مقدس الثالوث الأقدس” “sacrarium Trinitatis” كما يدعو القديس قبريانوس ذلك “مجموعة من الناس أصبحت واحدًا من خلال التوحد بالآب، والإبن، والروح القدس”، وأيضًا كما يعلّم المجمع الفاتيكاني الثاني (نور الأمم، 4). إن الاحتفال اليوم بعيد الثالوث الأقدس يدعونا الى التأمل بهذاالسر، ولكن أيضًا يحثنا على أن نلتزم بعيش شراكتنا مع الله ومع بعضنا البعض على غرار الثالوث الأقدس. نحن مدعوون لتلقي ونقل حقائق الإيمان بروح من التناغم، ولعيش حبنا لبعضنا البعض وللجميع، متشاركين بالأفراح والمعاناة، متعلمين طلب المغفرة كما منحها، مقدرين المواهب المختلفة بإرشادات الأساقفة. بكلمة واحدة، لقد أوكلت الينا مهمة بناء جماعات كنسية تمثل العائلات أكثر فأكثر، قادرة على أن تعكس جمال الثالوث وأن تبشر ليس بالكلمة فحسب، بل بالأحرى “بالإشعاع” من خلال قوة المحبة التي تعيشها.
ليست الكنيسة المدعوة الوحيدة لعيش صورة الله الواحد في ثلاثة أشخاص، ولكن أيضًا العائلات التي هي قائمة على الزواج بين رجل وامرأة. في البدء، “خلق الله الانسان على صورته على صورة الله خلقه ذكرا وأنثى خلقهم و باركهم الله و قال لهم اثمروا و اكثروا و املأوا الارض” (سفر التكوين 1: 27-28).
خلقنا الله ذكورًا وإناثًا، متساوين في الكرامة ولكن لكل منا صفات وخصائص، بحيث يمكن أن يكون الإثنين هدية لبعضهما، ويمكن أن يقدرا بعضهما، ويؤلفا شراكة حب وحياة. إن ما يجعل من الإنسان صورة حقيقية عن الثالوث الأقدس، صورة الله، هو الحب. أيها الأزواج، خلال عيشكم للزواج أنتم لا تعطون الآخر أي عمل أو شيء معين، بل تهبون له حياتكم بأكملها. في المقام الأول حبكم يعود بثماره عليكم لأنكم رغبتم وحققتم خير الآخر، لقد اختبرتم فرح العطاء والأخذ. كما تظهر ثماره أيضًا في إنجابكم للأولاد، وفي عنايتكم بهم، وفي تعليمهم الحكيم واليقظ. وأخيرًا، يعطي حبكم ثماره للمجتمع، لأن الحياة العائلية هي المدرسة الأولى التي لا غنى عنها للفضائل الإجتماعية، كاحترام الأشخاص، والمجانية، والثقة، والمسؤولية، والتضامن، والتعاون.
أيها الأزواج الأعزاء، في عالم تهيمن عليه التكنولوجيا، عليكم أن تنتبهوا لأولادكم وتنقلوا إليهم، بهدوء وثقة، أسباب العيش، وقوة الإيمان، موجهينهم نحو أهداف سامية ومقدمين الدعم لهم في ضعفهم. اسمحوا لي بأن أضيف كلمة للأولاد الموجودين هنا: كونوا على يقين من أنكم تحافظون على علاقة مودة عميقة وعناية جيدة بوالديكم، واعلموا أن علاقاتكم مع إخوتكم وأخواتكم هي فرصة للنمو في الحب.
إن مشروع الله للزوجين هو أن يكتملا بيسوع المسيح الذي رفع الزواج وجعله سرًّا. أيها الأزواج، من خلال عطية الروح القدس، يجعلكم المسيح شركاء في حبه الزوجي، وعلامة لحبه الأمين واللامحدود للكنيسة. إذا عرفتم قبول هذه العطية، مجددين “نعمكم” كل يوم بالإيمان، وبالقوة المتأتية من نعمة السر، عندها إذا ستنمو عائلاتكم في محبة الله على مثال العائلة المقدسة في الناصرة. أدعو جميع العائلات، للصلاة كثيرًا ولطلب معونة العذراء مريم والقديس يوسف، ليتمكنا من تعليمها كيفية قبول محبة الله مثلهما. ليس من السهل على العائلة عيش دعوتها، بخاصة اليوم، ولكن الدعوة للحب هي شيء رائع، هي القوة الوحيدة التي بإمكانها تغيير الكون، والعالم. شهدتم أمامكم الكثير من العائلات التي تشير الى دروب النمو في المحبة: من خلال المحافظة على علاقة وثيقة مع الله، والمشاركة في حياة الكنيسة، وتنمية الحوار، واحترام وجه نظر الآخر والإستعداد لخدمته، والصبر أمام إخفاقات الآخرين، والقدرة على المغفرة وطلب السماح، والتغلب على أي صراع بذكاء وتواضع، والإتفاق على مبادىء التربية، والإنفتاح على العائلات الأخرى، والإهتمام بالفقراء، والتحلي بالمسؤولية في المجتمع المدني.
هذه هي العناصر كلها التي تبني ا
لعائلة. عليكم أن تعيشوها بشجاعة، وكونوا أكيدين من أنه بقدر ما تحييون حبكم لبعضكم البعض وللجميع، فبمساعدة نعمة الله، تصبحون إنجيلًا حيًّا، وكنيسة حقيقية (الإرشاد الرسولي، “وظائف العائلة المسيحية”، 49). أود أيضًا أن أتوجه بكلمة الى المؤمنين الذين على الرغم من أنهم يتفقون مع تعاليم الكنيسة حول العائلة، إلا أنهم مرّوا بتجارب مؤلمة من الإنهيار والإنفصال. أريدكم أن تعلموا بأن البابا والكنيسة يدعمانكم في نضالكم. أحثكم على أن تظلوا متحدين بجماعتكم، وآمل بصدق بأن تعمل أبرشياتكم على تطوير مبادرات مناسبة لمرافقتكم.
يعهد الله الى الزوجين في سفر التكوين المحافظة على خليقته، وتنميتها، وتوجيهها بحسب مخططه (راجع 1: 27-28؛ 2: 15). في ما ذكره الكتاب المقدس، يمكننا أن نكتشف مهمة الرجل والمرأة في مشاركة الله في عملية تحويل العالم من خلال العمل، والعلم، والتكنولوجيا. إن المرأة والرجل هما أيضًا صورة الله في هذا العمل المهم، الذي يتممانه بمحبة الله الخالق. نجد في النظريات الإقتصادية الحديثة، مفهوم نفعي للعمل، والإنتاج، والتسويق. ولكن خطة الله، الى جانب الخبرة، تشيران الى أن المنطق الجانبي الواحد للفائدة الهائلة، والقدر الكبير من الأرباح لا يقضي الى التنمية المتناغمة، أو الى خير العائلة، أو حتى الى بناء مجتمع عادل، لأنه يحوي في أعقابه منافسة شرسة، وتفاوتات شديدة، تدهور البيئة، والسباق على السلع الإستهلاكية، والتوترات العائلية. بالفعل، فإن العقلية المنفعية تميل الى الإنتشار أيضًا في العلاقات الشخصية والعائلية، فتهدد بذلك متانة المصالح الفردية والنسيج الإجتماعي.
نقطة واحدة أخيرة: بما أن الإنسان هو على صورة الله ومثاله، فهو مدعو أيضًا لأن يرتاح ويحتفل بفعل الخلق الذي يختتم بهذه الكلمات: ” وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل و بارك الله اليوم السابع و قدسه” (سفر التكوين 2: 2-3). بالنسبة لنا نحن المسيحيين، الأحد هو يوم العيد، يوم الرب، الفصح الأسبوعي. هو يوم الكنيسة، يدعو الله الجماعة حول مائدة الكلمة والإفخارستيا، كما نفعل اليوم، لكي نتغذى منه، وندخل حبه ونعيش منه. هذا هو يوم الإنسان وقيمه: العيش المشترك، والصداقة، والتضامن، والثقافة، والاحتكاك بالطبيعة، واللعب، والرياضة. هذا هو يوم العائلة الذي نختبر فيه معًا شعور الإحتفال، واللقاء، والتبادل، بما ليس أقل من المشاركة في القداس. كما أدعو العائلات، وعلى الرغم من نمط الحياة القاسي في العالم الحديث، الى ألا تقفد معنى يوم الرب! فهو مثل واحة للراحة، ولنتذوق فرح اللقاء ونروي ظمأنا لله.
العائلة، العمل، والعيد: ثلاث هبات من الله، ثلاثة أبعاد لحياتنا يجب أن تجد توازنًا متناغمًا. إن تنسيق مواعيد العمل مع متطلبات العائلة، والحياة المهنية مع الأبوة والأمومة، والعمل مع العيد، هو مهم لبناء مجتمع ذي وجه إنساني. في هذا الصدد، اعطوا الأولوية دائمًا لمن أنتم وليس لما تملكونه: فالأولى ترفعكم أما الثانية فتدمركم. علينا اولا أن نتعلم بأن نؤمن بالعائلة، والحب الحقيقي، أي كالذي ينبثق من الله ويوحدنا به، ذلك الحب الذي يجعل منا “نحن” الذين نتجاوز انقساماتنا واحدًا، لكي في النهاية يكون الله “كل شيء في كل شيء” (1 كور 15: 28). (الإرشاد الرسولي “الله محبة”، 18). آمين.
***
نقلته من الإنجليزية الى العربية نانسي لحود- وكالة زينيت العالمية
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية