روما، الخميس 21 يونيو 2012 (ZENIT.org) – ننشر في ما يلي المقابلة العامة لقداسة البابا بندكتس السادس عشر مع المؤمنين في ساحة القديس بطرس نهار الأربعاء 20 يونيو 2012، والتي تكلم خلالها عن صلاة المباركة في رسالة القديس بولس الى أهل أفسس.
***
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
غالبًا ما نرفع صلاتنا لالتماس مساعدة في الشدائد. هذا أمر طبيعي بالنسبة لنا نحن البشر، لأننا بحاجة الى المساعدة، والى الآخرين، ونحن بحاجة الى الله. إذا فمن الطبيعي بالنسبة لنا أن نسأل الله أي شيء، وأن نبحث عن مساعدته؛ يجب علينا أن نتذكر دائما بأن صلاة “الأبانا” التي علمنا إياها الرب، هي صلاة طلب، ومن خلالها يفهمنا الرب أولويات صلاتنا. هو ينقي ويطهر رغباتنا وبذلك ينقي قلبنا أيضًا. فإذا لا ينبغي أن نفكر بأننا بصلاتنا نحن فقط نطلب أشياء، فهناك أيضًا أسباب للشكر، فإذا انتبهنا قليلا لوجدنا بأن الله يغدق علينا بالكثير من الأشياء الجيدة؛ هو إله طيب معنا فمن الضروري أن نشكره. يجب أن يكون شكرنا صلاة تسبيح: إذا كان قلبنا مفتوحًا، سنتمكن من أن نرى، وعلى الرغم من مشاكلنا، جمال الخلق، والطيبة التي تتجلى في خليقته. لذلك لا يجب علينا أن نسأل فحسب، بل علينا ان نسبّح ونشكر: فبهذه الأفعال فقط تكتمل صلاتنا.
لا يتكلم القديس بولس في رسائله عن الصلاة فحسب، بل بالطبع هو يقدم صلوات إلتماس، الى جانب صلوات تسبيح وتمجيد لكل ما أنجزه الرب ولا يزال ينجزه في تاريخ البشرية.
أريد اليوم أن أتوقف عند الفصل الأول من الرسالة الى أهل أفسس، الذي يبدأه القديس بولس بصلاة، التي هي نشيد تسبيح، للتعبير عن الشكر، والفرح. هو يبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح لأنه من خلاله “أطلعنا على سر مشيئته” (أفسس 1، 9). بالفعل، لدينا سبب لنمجد الله لأنه أطلعنا على ما هو خفي: أي مشيئته في شأننا، ما كنا نحن نعتبره: “سر مشيئته”.
“ميستيريون” أو “سر” هي كلمة غالبًا ما تتردد في الكتاب المقدس والليتورجيا. لا أريد التطرق الى فقه اللغة الآن، ولكن هذه الكلمة تعني في كلامنا المحكيّ “ما لا يمكن معرفته”، حقيقة لا نستطيع فهمها بذكائنا. إن النشيد الذي تستهل به الرسالة الى أهل أفسس، يقودنا الى معنى أعمق لهذا المصطلح والى الحقيقة التي يتضمنها. بالنسبة الى المؤمنين، “فالسر” هو ليس المجهول بقدر ما هو مشيئة الله الرحيمة، مشروع حبه الذي كشف عنه بيسوع المسيح والذي أعطانا القدرة على “أن ندرك مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعلو والعمق، ونتعرف إلى “محبة المسيح” (أفسس 3، 18-19). تجلت “مشيئة الله الخفية”: الله يحبنا، هو يحبنا منذ البدء، منذ الأزل.
دعونا نتوقف قليلًا عند هذه الصلاة المهيبة والعميقة: “تبارك أبو ربنا يسوع المسيح” (أفسس 1، 3). استخدم القديس بولس فعل “euloghein” أي “بارك” (من اللغة العبرية): وهو يعني التمجيد، والحمد، وشكر الله الآب، مصدر كل خير وخلاص، هو الذي “باركنا كل بركة روحية في السموات في المسيح”.
إن القديس بولس يشكر ويمجد الله ولكنه يفكر أيضًا بالأسباب التي تدفع بالإنسان الى هذا التمجيد، وهذا الشكران، ويقدم العناصر الأساسية للمشروع الإلهي ومراحله. بادىء الأمر، علينا أن نبارك الله لأنه، وبحسب القديس بولس، “اختارنا فيه قبل انشاء العالم لنكون في نظره قديسين بلا عيب في المحبة” (الآية 4). المحبة تجعلنا قديسين. دعانا الله الى الوجود، الى القداسة، وهذا الخيار أتى قبل إنشاء العالم. منذ البدء شكلنا جزءًا من مشروعه، ومن تفكيره. فيمكننا أن نؤكد مع إرميا النبي بأن الله يعرفنا قبل أن نتكون في رحم أمنا (راجع إرميا 1، 5)؛ وعندما عرفنا أحبنا. تشكل الدعوة الى القداسة، أي الى الشراكة مع الله، جزءًا من مشروعه الأبدي، وهو مشروع يمتد في التاريخ ويشمل رجال العالم ونساءه كافة، لأن هذه الدعوة هي جامعة. لا يستثني الله أحدًا، فمشروعه هو الحب فقط. يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم: “لقد جعلنا قديسين وعلينا أن نبقى قديسين. فالقديس هو من لديه نصيب في الإيمان” (عظة ألقاها حول الرسالة الى أهل أفسس 1، 1-4).
يكمل القديس بولس بالقول: اختارنا الله من قبل إنشاء العالم “ليتبنّانا بيسوع المسيح”، لننخرط بابنه الوحيد. يشير القديس بولس الى مجانية مشروع الله للبشرية هذا. يختارنا الله ليس لأننا طيبون بل لأنه هو طيب. قيل في العصور القديمة عن الطيبة: “bonum est diffusivum sui” ما يمكن ترجمته “الطيبة تتوق الى الإنتشار”. الطيبة تنتشر، فالإنتشار هو من جوهرها. وبما أن الله هو طيب، إذا هو انتشار للطيبة، هو يخلقنا لأنه يريد أن ينقل طيبته لنا ويجعلنا طيبين وقديسين.
في وسط صلاة التسبيح، يبين بولس الرسول الطريقة التي يتحقق بها تدبير الله الخلاصي بالمسيح ابنه الحبيب، فيكتب: “فكان لنا فيه الفداء بدمه، أي الصفح عن الزلات على مقدار نعمته الوافرة” (أفسس 1، 7). إن تضحية المسيح على الصليب هي الحدث الوحيد و اللا مثيل له، الذي من خلاله أظهر الآب بطريقة مشرقة محبته لنا، ليس بالكلمات فحسب، بل بشكل ملموس. الله حقيقي جدًّا ومحبته ملموسة جدًّا بحيث دخل التاريخ، وأصبح إنسانًا ليعلم ما هو العيش في هذا العالم، وقَبِلَ أن يسير على طريق العذاب والآلام، كما قَبِلَ الموت. محبة الله ملموسة بحيث لم يشاركنا وجودنا فحسب، بل شارك في معاناتنا وموتنا. إن التضحية التي قام بها الله على الصليب جعلتنا “ملكًا له”، لأن دم المسيح انتشلنا من الخطيئة، وغسلنا من الشر، وأنقذنا عبودية الخطيئة والموت.
يدعونا القديس بولس للنظر في عمق محبة ا
لله التي غيّرت التاريخ، وبدلت حياته، وحولته من مضطهد للمسيحيين الى رسول لا يكل من إعلان الإنجيل. فلنردد مرة أخرى الكلمات المطمئنة من الرسالة الى أهل رومة: “إذا كان الله معنا، فمن يكون علينا؟ إن الذي لم يَضَنَّ بابنه نفسه، بل أسلمه الى الموت من أجلنا جميعًا، كيف لا يهب لنا معه كل شيء؟… وإني واثق بأنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا أصحاب رئاسة، ولا حاضر ولا مستقبل، ولا قوات، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، بوسعها أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا” (راجع رومة 8، 31-32. 38-39). هذه الكلمات المطمئنة – بأن الله معنا ولا أحد يمكنه أن يفصلنا عنه، لأن محبته أقوى من كل شيء- علينا أن ندمغها في كياننا ووعينا كمسيحيين.
أخيرًا، يختتم التسبيح الإلهي بالإشارة الى الروح القدس الذي أفيض في قلوبنا؛ هذا البارقليط الذي تلقيناه كختم للوعد، وهو “عربون ميراثنا، الى أن يتم فداء خاصته للتسبيح بمجده” (أفسس 1، 14). لم ينته الفداء بعد، نحن نعي ذلك جيدًا، ولكنه سينتهي حين يخلص تمامًا أولئك الذين فداهم الله. نحن لا نزال على طريق الفداء، الذي أعطينا من خلاله الحقيقة الأساسية بموت يسوع وقيامته. نحن في طريقنا الى الفداء النهائي، الى التحرير الكامل لأبناء الله، والروح القدس هو اليقين بأن الله سينهي مشروع خلاصه عندما “يجمع تحت رأس واحد، هو المسيح، كل شيء ما في السماوات وما في الأرض” (أفسس 1، 10). يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “اختارنا الله بالإيمان وطبع فينا ختم ميراث المجد المنتظر” (عظة ألقاها حول الرسالة الى أهل أفسس 1، 11-14). علينا أن نقبل بأن يكون طريق الفداء طريقنا أيضًا، لأن الله يريد مخلوقات حرة تقول “نعم” بحرية؛ ولكن أولا وقبل كل شيء هذا هو طريقه. نحن بين يديه ويتعين لنا الآن وفق حريتنا أن نسير على الطريق الذي فتحه أمامنا. نسير على طريق الفداء هذا مع المسيح، ونشعر بأن الفداء يتم.
إن الرؤية التي قدمها لنا القديس بولس في صلاة المباركة الكبيرة هذه، دفعتنا الى التأمل بفعل الثالوث الأقدس: أولا، الآب الذي اختارنا من قبل إنشاء العالم، هو الذي فكر بنا وخلقنا، ثانيًا، الإبن الذي افتدانا بدمه، وأخيرًا، الروح القدس عربون فدائنا ومجدنا الآتي. نتعلم نحن أيضًا، كما القديس بولس، من خلال صلاة مستمرة، وتواصل يومي مع الله، أن ندرك علامات هذا المشروع والعمل الإلهي دائما بشكل أوضح: في جمال الخالق الذي يظهر في مخلوقاته (راجع أفسس 3، 9)، كما يغنيه القديس فرنسيس الأسيزي: “لك الحمد ربي، مع جميع خلائقك” (FF263).
من المهم أن نكون متنبهين، وبخاصة الآن، وفي فترة العطلة، الى جمال الخلق والى انعكاس صورة الله في هذا الجمال. أظهر القديسون في حياتهم، بصورة مشرقة، ما يمكن أن تفعله قوة الله من خلال ضعف الإنسان، وهو يمكنه أن يفعل هذا لنا نحن أيضًا. في تاريخ الخلاص بمجمله، حيث أصبح الله على مقربة منا وانتظر حلول ساعتنا بصبر، فهم خياناتنا، وشجّع جهودنا وهدانا.
تساعدنا الصلاة على فهم علامات هذا المشروع الرحوم في مسيرة الكنيسة. بالتالي حن ننمو في محبة الله فاتحين الباب أمام الثالوث الأقدس لكي يأتي ويسكن فينا، وينور، ويدفىء، ويقود وجودنا. قال يسوع لتلاميذه وهو يعدهم بعطية الروح القدس الذي سيعلمهم كل شيء: “إذا أحبني أحد، حفظ كلامي فأحبه أبي ونأتي إليه فنجعل لنا عنده مقاما” (يوحنا 14، 23). قال مرة القديس إيريناوس بأنه في التجسد كان الروح القدس قد اعتاد أن يسكن في الإنسان. علينا أن نتعود من خلال الصلاة أن نكون مع الله. من الضروري أن نتعلم أن نكون مع الله لأننا هكذا نستطيع أن نكتشف كم من الجميل أن نكون معه، وهذا هو الفداء بالتحديد.
أيها الأصدقاء، عندما تغذي الصلاة حياتنا الروحية، نصبح قادرين على الإحتفاظ بما يسميه القديس بولس “سر الإيمان” في ضمير طاهر (راجع الرسالة الأولى الى طيموتاوس 3، 9). إن الصلاة التي هي “عادة” لأن نكون مع الله، تولّد رجالا ونساء لا تقودهم الأنانية، والرغبة في التملك، والتعطش الى السلطة بل بالعكس المجانية، والرغبة في المحبة، والتعطش الى الخدمة، أي يقودهم الله، وهكذا فقط يمكننا أن نزرع النور في ظلمة هذا العالم.
أود أن أختم هذا التعليم مستعينًا بالخاتمة التي وردت في الرسالة الى أهل رومة. فمع القديس بولس علينا أن نمجد الله نحن أيضًا، لأنه أعطانا كل شيء بيسوع المسيح، كما أعطانا “المعزي” أي روح الحق. يكتب القديس بولس في ختام الرسالة الى أهل رومة: “لذاك القادر على أن يثبتكم بحسب البشارة التي أعلنها مناديا بيسوع المسيح، وفقا لسر كشف وظل مكتومًا مدى الأزل فأعلن الآن بكتب الأنبياء وفقًا لأمر الله الأزلي، وبُلِّغ الى جميع الأمم لهدايتها الى طاعة الإيمان، لله الحكيم وحده له المجد بيسوع المسيح أبد الدهور. آمين” (16، 25-27). شكرًا.
***
نقلته من الفرنسية الى العربية نانسي لحود – وكالة زينيت العالمية
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية