"أنت هو المسيح ابن الله الحيّ"

عظة الأحد للبطريرك الماروني

Share this Entry

بكركي، الاثنين 5 نوفمبر 2012 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في القداس الإلهي نهار الأحد 4 نوفمبر 2012.

* * *

1. في قيصريّة فيليبس أعلن سمعان – بطرس إيمانه “بالمسيح ابن الله الحيّ”، فجعله الربّ يسوع صخرة بنى عليها كنيسته. فإذا بالكنيسة بيت روحي حجارته الحيّة كلّ مؤمن ومؤمنة بالمسيح، على ما كتب بطرس الرسول في رسالته الأولى: “كونوا أنتم، كحجارة روحيّة مبنيّين بيتاً روحيّاً، لتصيروا جماعةً كهنوتيةً مقدّسة، فتقرّبوا ذبائح روحيّة مرضيّة لله بيسوع المسيح” (1بطرس2: 5). إنّنا نجدّد اليوم إيماننا بالمسيح وبالكنيسة، فيما نحتفل في هذا الأحد الأوّل من السنة الطقسيّة بتقديس الكنيسة، ونعلنها مقدّسة بالحضور الإلهي وبقدّيسيها وبالمؤمنين والمؤمنات المقدّسين فيها.

2. إنّنا نرحّب بكم جميعاً، وقد توافدتم من مختلف المناطق، وبخاصّة نحيّي فخامة رئيس الجمهورية الأسبق الشيخ أمين الجميّل والوفد الكتائبي المرافق، آملين منهم الوقفة التاريخية المعهودة في خدمة لبنان دولة ومؤسسات؛ وسموّ الأمير l’Archiduc Imre De Hasbourgوالسيّدة عقيلته الأميرة Kathleen، ومعهما السيدات رئيسة اللّجنة الرسميّة للاحتفال الدولي لسهرة المبتدئات 2012 وأعضاءها. وقد أحيوا ليلة أمس الاحتفال الخامس عشر برعاية اللّبنانية الأولى. كما نُحيّي رئيس مجلس القضاء الأعلى الرئيس جان فهد والسادة القضاة المرافقين، ونُهنِّئ الرئيس الجديد راجين له النجاح وللقضاء السموّ في خدمة العدالة كأساس للملك. ونحيّي أيضاً رئيس رابطة آل عازار في لبنان ودنيا الانتشار، الدكتور شربل عازار وسائر أعضائها، فيما تواصل الرابطة في عامّها الحادي والأربعين لتأسيسها نشاطاتها الثقافيّة والاجتماعيّة والترفيهيّة والخيريّة والدينيّة المتعدّدة. ونوجّه عاطفة الأسى والتعزية إلى عائلة المرحوم الشاب رولان نبيل شبير من الفيدار الذي غدر به صديقه، معيداً جرم قايين الذي قتل أخاه هابيل، والله يوبّخ ضميره بالكلمات التي وجّهها لقايين القاتل بصوت داخلي كان يقضّ مضجعه: “قايين، قايين، أين هابيل أخوك؟ ماذا صنعت؟ إنّ صوت دماء أخيك صارخ إليّ من الأرض. والآن فملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها، لتقبل دماء أخيك من يدك (تك 4: 9-11). هذا صوت عدالة الله. نرجو أن يلتقيه صوت عدالة قضاء الأرض. وندعوكم يا أهله الأحبّاء، وكلّ الشبيبة التي تحبّه وتبكيه من الفيدار وبلاد جبيل، وفي مقدمتهم مكتب الشبيبة في دائرتنا البطريركيّة، لأن ترفعوا عيونكم إلى حيث هو في مجد السماء حول “مائدة عرس الحمل”، التي كتب عنها يوحنا الرسول في رؤياه، أنتم الذين تسمّون العزيز رولان “عريس السماء”.وتعود بنا الذاكرة إلى الشهيدة الشابّة مريم الاشقر التي اغتيلت هي أيضاً منذ سنة. وفي قلبنا رجاء أن مريم ورولان شفيعان عند الله لشبيبتنا، لكي تحافظ على إيمانها وقيَمها وتلتزم حماية كلِّ حياةٍ بشرية وقدسيتها.

3. نحيّيكم جميعاً فيما نقيم قدّاس الشكر لله على هذا الشهر، الذي غبنا فيه عنكم وعن لبنان، وقد قمنا خلاله بزيارة راعوية إلى دولة المجر – هنغاريا بدعوة رسميّة من الدولة والكنيسة، والتقينا فيها جاليتنا اللّبنانية والمارونية. إنّا نعرب مجدّداً عن شكرنا وتقديرنا للسّلطات المدنيّة التي التقيناها في لقاءات رسميّة، ولسفير لبنان فيها السيد شربل اسطفان وعائلته، ولسفير المجر في لبنان السيد LászlóVáradiولنيافة الكردينالPeter Erdö رئيس أساقفة بودابست والسادة المطارنة، ولكلّ الذين نظّموا الزيارة واحتفوا بنا وبالوفد المرافق. وقضينا ثلاثة أسابيع في روما حيث شاركنا بأعمال جمعيّة سينودس الأساقفة العادية الثالثة عشرة بموضوع: “الإعلان الجديد للإنجيل من أجل نقل الإيمان المسيحي”. وقد شاء قداسة البابا بندكتوس السادس عشر أن يكلّل هذا السينودس بمنحي رتبة الكردينالية مع خمسة رؤساء أساقفة يمثّلون خمسة بلدان: الولايات المتّحدة الأميركيّة وكولومبيا ونيجيريا والفيليبين والهند. وأراد بهذه المبادرة أن يكافئ الكنيسة المارونية ولبنان وشعبه على استقباله المميّز في زيارته التاريخية. فأشكره باسمكم من صميم القلب. ونسأل الله أن تكون هذه الرتبة مصدراً أقوى من اجل خدمة أفضل للكنيسة إلى جان قداسة البابا. كما قمنا بزيارة راعويّة لجاليتنا اللّبنانية والمارونية في كلّ من روما وميلانو، فنشكرهم جميعاً على حفاوة الاستقبال الحارّ، ونحيّي شاكرين بعثاتنا الديبلوماسية اللّبنانية فيهما.

ونذكر في هذا القداس والصلاة الكنيسة القبطية الارثوذكسية الشقيقة التي تختار اليوم بإلهامٍ إلهي بطريركاً جديداً، بابا الاسكندرية والكرازة المرقسية، خلفاً للمثلث الرحمة البابا شنوده الثالث، والمدعو لقيادة هذه الكنيسة في الظرف الصعب التي تمرّ به مصر وبلدان الشرق الأوسط.

4. “أنت هو المسيح ابن الله الحيّ”. هذا هو إيماننا المسيحي الذي نردّده مع بطرس الرسول، ونعيش بمقتضاه، ولا سيّما في سنة الإيمانهذه التي افتتحها قداسة البابا في 11 تشرين الأوّل الماضي، بمناسبة الذكرى الخمسين لافتتاح المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في 11 تشرين الأوّل 1962، وبمناسبة انعقاد سينودس الأساقفة حول موضوع “الإعلان الجديد للإنجيل من اجل نقل الإيمان المسيحي”.

إنّ الإيمان عطيّة ونعمة من الله، إذ يلهم ال
روح القدس من يتقبّله فينير عقله ليرى الحقيقة الإلهيّة الموحاة ويستنير بها، ويشدّد إرادته للثبات في الحقيقة برجاء وللإلتزام بها في الأعمال، ويسكب في قلبه المحبة لله ليعيشها حضارة حياة. هذا الإيمان امتدحه الربّ يسوع عند سمعان بطرس، وهنّأه عليه، لأنّه عطيّة قبلها من الآب السماوي: “طوبى لك يا سمعان بن يونا، لأنّ لا لحم ولا دم أظهر لك ذلك، بل ابي الذي في السماء” (متى 16: 17). والايمان لقاء شخصي وجداني بالمسيح، يغيِّر المؤمن ويبدّله ويضعه في مكانه من تاريخ الخلاص.

5. في أحد تقديس البيعة، نلتمس من المسيح الربّ أن يفتح عقولنا وإراداتنا والقلوب، لنقبل هبة الإيمان من الله الآب بالروح القدس. فبدونها نحن عاجزون عن معرفة الحقيقة والتزام الخير والعيش بالمحبة. وبسبب عدم قبولها، ازداد الشكّ بالحقائق الموحاة، وزاغ الكثيرون عن نور الحقيقة التي تجمع وتحرّر، فتعثّروا في حقائقهم النسبيّة وتفرّقوا وخضعوا لعبوديّات المال وشهوة السلطة والاستقواء والسعي إلى المصالح الرخيصة والفساد والدعارة والإدمان على المخدِّرات والمسكرات. وبسبب عدم قبول هبة الإيمان، تلاشى الرجاء في الإرادات، فانحاز العديدون إلى ارتكاب الشرّ والجرائم والاعتداء على الحياة البشريّة وممارسة العنف والإرهاب، وعاش آخرون في حالة من اليأس والقنوط والإحباط، وكأنّهم في حالة غربة عن ذواتهم ومجتمعهم وكنيستهم وأرضهم. ولهذا السبب أيضاً جفّت المحبّة في قلوب الكثيرين، فباتوا أسرى الحقد والبغض والضغينة وراحوا يتراشقون التّهم والإساءات، ويعتدون على بعضهم البعض بالكلام والسلاح والخطف. وها هم يعيشون في حالة خوف وحذر من بعضهم البعض، ويشعرون بأنّهم مهدّدون في حياتهم، فقبعوا في بيوتهم ومربّعاتهم الأمنيّة. هذا الواقع المؤسف يشوّه وجه المجتمع اللّبناني ووجه لبنان والكنيسة. فلا بدّ من الجلوس على مائدة الحوار لإيجاد الحلول، ومن إعلان جديد للإنجيل لإحياء الإيمان المسيحي، ومن التزام الشركة والمحبة لقيام مجتمع أفضل وأكثر إخاء وإنسانية.

6. “أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها” (متى16: 18)

الإيمان بالمسيح، كما وصفناه، هو بمثابة صخرة يُبنى عليها البيت الروحي، سُكنى الله بين بني البشر، الذي هو الكنيسة، وحجارته جماعة المؤمنين بالمسيح. ولذلك لا يمكن أن تنال منه قوى الشرّ. هذه الكنيسة هي واقع الشّركة بين الله والناس، وهي أداة الشّركة على المستوى الأفقي بين الجميع، مع تنوّع ثقافتهم ولونهم ومعتقدهم. وبمقدار ما تعمل الكنيسة من أجل توطيد أواصر الشركة ببُعدَيها العمودي والأفقي، بمقدار ذلك تكون شاهدة للشركة وملتزمة بها، ساعية إلى الجمع بين الناس على قاعدة الحقيقة والمحبة، وإلى هدم كلّ جدران التفرقة وسوء التفاهم والعداوة. إنّنا مدعوّون، نحن أبناء الكنيسة وبناتها، للعمل معاً على تطبيق الإرشاد الرسولي الذي وقّعه قداسة البابا بندكتوس في شهر أيلول وسلّمنا إيّاه أثناء زيارته التاريخية إلى لبنان، وعنوانه: “الكنيسة في الشرق الأوسط، شركة وشهادة”، وعلى الالتزام بما ترك لنا من توجيهات بشأن دور المسيحيّين واللّبنانيين ورسالة لبنان في الخطابات والعظات التي ألقاها أثناء زيارته.

7. أودّ باسمكم أن اشكر قداسة البابا على الرسالة التي وجّهها إليّ في 2 تشرين الأوّل، وعبّر فيها عن امتنانه العميق للاستقبال الحارّ الذي لقيه منّا ومن السّادة المطارنة ومن كلّ أبناء كنيستنا وبناتها، ومن كلّ الذين شاركوا في محطّات زيارته للبنان، مع ذكر خاصّ للقاء الشبيبة في ساحة الكرسي البطريركي، ولقدّاس الأحد الختامي في بيروت. ولا بدّ من الإشارة إلى ما جاء في رسالته من أجل العمل بموجبه.

لقد أدرك “الغنى الإنساني والحيويّة الكنسيّة في لبنان، وألم العديد من الأشخاص، ضحايا العنف”. واعتبر أنّ “الزيارة وما أنتجت من ثمار تستطيع تشجيع الكنيسة في لبنان وتوجيهها لتعيش بشجاعة شهادتها للشركة، وتنظر إلى المستقبل برجاء”. وتمنّى “أن يتمكّن الإرشاد الرسولي، الذي وقّعه وسلّمه، من أن يُنبت على هذه الأرض المحبوبة بذور المصالحة والعدالة والسلام، من خلال تطبيق نداء الشركة والشهادة، الموصوف في الإرشاد بكلّ وجوهه الإنسانيّة والعقائديّة والكنسيّة والروحيّة والراعويّة”.

8. بعد هذه الرسالة اللّطيفة والغنيّة بأبعادها النبويّة، وفيما كان الشعب كلّه في الداخل وفي الخارج يعيش بهجة زيارة قداسة البابا للبنان التي رفعته إلى مكانته العربيّة والدوليّة، جاءت قوى الشرّ المتربّصة أبداً به وبأهله، فكان اغتيال شخصيّة أمنيّة لبنانيّة سنّية معروفة هو اللواء وسام الحسن رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي في الأشرفية الجمعة في 12 تشرين الأوّل، ووقعت معه ضحايا بريئة من المواطنين وجرحى وتهديم منازل ومتاجر وتهجير أهلها. إنّنا نجدّد للعائلات المصابة مشاعر التعزية والشركة والصلاة.

وأودّ أن أوجّه عاطفة خاصّة إلى الإخوة السنّة في لبنان الذين يعتبرون، وبحقّ، أنّهم مُستهدَفون وبالتالي لبنان، حيث الكل بات مُستهدفاً. وهذا ما تسبب بموجة عارمة من التنديد والمطالبات وظهور موجة راديكالية على حساب المعتدلين وهم الأكثرية. ونقول لهم أنّ الجرحَ البليغ هو جرحنا جميعاً، وينبغي أن نحوّله معاً إلى آلام مخاض، يولد منها واقع جديد في لبنان، على مستوى الدولة والشعب والمؤسّسات.
واقع يحقّق أمنيات قداسة البابا المعبّر عنها في رسالته المذكورة، أعني “المصالحة والعدالة والسلام”. إنّنا نتضامن مع كلّ ذوي الإرادات الطيّبة والنوايا الحسنة، من لبنان وخارجه، لكي لا تنال قوى الشرّ الفاعلة في هذا الشّرق من وحدة أسرتنا اللّبنانيّة ورسالتها ودورها. فالكنيسة المنيعة على هذه القوى هي إلى جانب كلّ مظلوم ومقهور ومهمّش. وأدعو إلى تلبية دعوة فخامة رئيس الجمهورية إلى التشاور والحوار من أجل العبور إلى واقع جديد يكون فيه خير لبنان ومؤسساته وخير جميع مكوِّناته، أفراداً وجماعات.

إنّنا نرفع صلاتنا في هذه الذبيحة المقدّسة على هذه النيّة، ملتمسين شفاعة أمّنا مريم العذراء سيّدة لبنان، لكي تحوّل نعمة المسيح الربّ الذي جاء “ليصنع كلّ شيء جديداً” (رؤيا 21: 5) كلّ أوجاعنا إلى آلام مخاض ينبلج منها فجر جديد من المصالحة والعدالة والسلام، لمجد الله الآب والابن والروح القدس، آمين.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير