في الواقع، ما نسميه “توق إلى الله” ما زال يظهر اليوم أيضا بأشكال متعددة في قلب الإنسان. فالرغبة البشرية تتوق إلى خيور ملموسة غالبا ما لا تكون روحية، ومع ذلك تجد نفسها أمام السؤال عن معنى “الخير” الحقيقي، وبالتالي لتتواجه مع شيء آخر لا يستطيع الإنسان أن يبنيه ولكنه مدعو للاعتراف به. فماذا يمكن أن يُشبع حقا رغبة الإنسان؟
تابع الأب الأقدس يقول، في رسالتي العامة الأولى “الله محبة”، حاولت أن أشرح كيف تتحقق هذه الديناميكية في خبرة الحب البشري، خبرة يمكن رؤيتها بسهولة في عصرنا كمكان يشعر الإنسان فيه برغبة تتخطاه. من خلال الحب يختبر الرجل والمرأة بشكل جديد، الواحد بفضل الآخر، عظمة وجمال الحياة والواقع. فالجواب على السؤال حول معنى خبرة الحب، يمر من خلال تطهير الإرادة وشفائها، والتي يتطلبها خير الآخر.
فالـ”نشوة” الأولى تُُترجم بمسيرة حج، “خروج دائم ينطلق من الأنا المغلق على ذاته إلى تحرره بعطاء الذات، وهكذا بالتحديد نحو اكتشاف الذات، والأكثر من ذلك نحو اكتشاف الله” (الله محبة عدد 6). ومن خلال هذه المسيرة يتمكن الإنسان من تعميق معرفته تدريجيا لذلك الحب الذي اختبره في البداية. لذا فخبرة الحب الإنسانية تحمل في ذاتها حماسا يأخذنا أبعد من ذواتنا، إنها خبرة “خير” يحملنا على الخروج من ذواتنا لنقف أمام السر الذي يغمر وجودنا كلَّه.
أضاف الأب الأقدس ينطبق هذا أيضا على خبرات بشرية أخرى كالصداقة وحب المعرفة، فكل “خير” يختبره الإنسان يمتد نحو السرّ الذي يغمر الإنسان نفسه، وكل رغبة يعبر عنها القلب البشري هي صدى لرغبة جوهرية لن تُشبع أبدا بالكامل. فلا يمكن معرفة الله فقط من خلال رغبة الإنسان، ومن هذا المنطلق يبقى السرّ: الإنسان تواق للمطلق، إنه كائن ذات بعد ديني، “معوز لله”.
لذا، تابع البابا يقول: علينا أن نفتتح مسيرة نحو معنى الحياة الديني الحقيقي، الذي يُظهر أن عطية الإيمان ليست غير منطقية. لذا فمن الأهمية بمكان تعزيز نوع من التنشئة للذين لم يؤمنوا بعد وللذين قد نالوا عطية الإيمان. تنشئة تتضمن ناحيتين: الأولى تعليم أو إعادة تعليم معنى أفراح الحياة الحقيقية، والثانية ألا نكتفي أبدا بما قد حققناه لأن الأفراح الحقيقية تستطيع أن توقظ فينا ذاك القلق السليم الذي يجعلنا أكثر تطلبا مع ذواتنا ويجعلنا ندرك دائما وبوضوح أكبر أنه ما من شيء يمكنه أن يملأ قلبنا. فنتعلم عندها أن نتوق إلى الـ”خير” الذي لا يمكننا بناؤه والحصول عليه بقوانا الشخصية، وألا ندع التعب والعوائق الناتجة عن خطيئتنا تحبطنا. وأضاف: نحن حجاج نحو الموطن السماوي، نحو الخير الكامل والأبدي الذي لا يمكن لشيء أن ينزعه منا. فلا نخنقنّ الرغبة التي في قلب الإنسان وإنما لنحررها كي تبلغ إلى ملأها. عندما تنفتح الرغبة على الله، فهذا دليل على وجود الإيمان الذي هو نعمة من الله.
ختم الأب الأقدس تعليمه الأسبوعي بالقول: في مسيرة الحج هذه، فلنشعر بأننا إخوة لجميع البشر، رفقاء سفر حتى للذين لا يؤمنون، للذين يبحثون وللذين يتساءلون بصدق حول رغبتهم في الحقيقة والخير. فلنرفع الصلاة في سنة الإيمان هذه لكي يظهر الله وجهه للذين يبحثون عنه بقلب صادق.