العالم، الإنسان، والإيمان ثلاثة دروب نحو الله

تعليم البابا بندكتس السادس عشر في المقابلة العامة بتاريخ 14 نوفمبر 2012

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

روما، الخميس 15 أكتوبر 2012 (ZENIT.org)- ننشر في ما يلي المقابلة العامة لقداسة البابا بندكتس السادس عشر مع المؤمنين في ساحة القديس بطرس نهار الأربعاء 14 نوفمبر 2012.

***

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

تأملنا يوم الأربعاء الماضي في الرغبة التي يحملها الإنسان لله في عمق أعماقه. أود اليوم أن أتعمق بهذا الجانب متأملا معكم بشكل وجيز حول بعض الطرق التي توصلنا لمعرفة الله.

أريد أن أذكّر أولا بأن مبادرة الله تسبق مبادرة الإنسان، وبأن في الطريق إليه، هو الذي ينيرنا أولا، ويرشدنا، ويوجهنا، محترمًا دائما حريتنا. هو دائما من يدخلنا في حميميته، من خلال كشف ذاته وإعطائنا النعمة لنستطيع أن نتقبل هذا الاعتلان في الإيمان. لا يجب أن ننسى أبدًا تجربة القديس أغسطينس: لسنا نحن من نمتلك الحقيقة بعد أن نسعى اليها، بل الحقيقة هي التي تبحث عنا وتمتلكنا.

ولكن هناك طرق يمكنها أن تفتح قلب الإنسان على معرفة الله، وإشارات تؤدي الى الله. في الواقع، قد يعمي عيوننا لمعان الدنيوية، الذي يقلل من قدرتنا على سلك هذه الطرق أو قراءة الإشارات. لكن الله لا يتعب من البحث عنا، هو أمين تجاه الإنسان الذي خلقه وخلصه، يبقى قريبًا من حياتنا لأنه يحبنا. يجب على هذه الثقة أن ترافقنا كل يوم، على الرغم من أن بعض العقليات المنتشرة تصعب على المسيحي والكنيسة مهمة إيصال فرح الإنجيل للخليقة، وتوجيه الجميع الى اللقاء مع يسوع، مخلص العالم الوحيد. هذه مهمتنا، مهمة الكنيسة وعلى كل مؤمن أن يعيشها في الفرح، آخذًا إياها على عاتقه من خلال حياة يحركها الإيمان، وتميزها المحبة، من خلال خدمة الله والآخرين، ويكون قادرًا على نشر الرجاء. تظهر هذه المهمة بشكل خاص في القداسة التي نحن جميعنا مدعوون إليها.

اليوم، كما نعلم،لا تنقص الصعوبات، ولا التجارب للإيمان الذي غالبًا ما يساء فهمه، ويطعن به، ويتم رفضه. كان القديس بطرس يقول للمسيحيين: “كونوا مستعدين دائمًا لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم بوداعة واحترام” (1 بطرس 3، 15). في الماضي، في الغرب، في مجتمع يعتبر مسيحيًّا، كان الإيمان هو المكان الذي نتنقل فيه؛ كانت المرجعية والإلتزام بالله يشكلان جزءًا من الحياة اليومية لمعظم الناس. كان الشخص الذي لا يؤمن يبرر عدم إيمانه. في عالمنا اليوم تغير الوضع، وينبغي على المؤمن أن يكون دائما قادر على تبرير سبب إيمانه. كان الطوباوي يوحنا بولس الثاني قد أشار في رسالته العامة “الإيمان والعقل” (Fides et ratio) كيف تم تمحيص الإيمان في الزمن المعاصر من خلال أشكال رفيعة، وخادعة من الإلحاد النظري والعملي (cf. nn. 46-47). انطلاقا من عصر الأنوار أصبح نقد الدين كثيفًا؛ شهد التاريخ أيضًا وجود أنظمة إلحادية، كان الله يعتبر فيها كنوع من الإسقاط البسيط للنفس البشرية، وهم، وناتج مجتمع شوهته من قبل تصرفات عدة. لقد شهد القرن التالي عملية علمانية قوية، تحت شعار الإستقلالية المطلقة للإنسان، الذي كان يعتبر نفسه كمقياس ومبتكر الحقيقة، ولكن فقيرًا في شخصه المخلوق “على صورة الله ومثاله.” تم التحقق في عصرنا من ظاهرة خطيرة بشكل خاص تتعلق بالإيمان: في الواقع، يوجد نوع من الإلحاد الذي نسميه بشكل خاص “المُعاش”، ففيه لا ننفي حقائق الإيمان أو الشعائر الدينية، ولكن نعتبرها ببساطة تافهة للوجود اليومي، بعيدة عن الحياة، غير مفيدة. في كثير من الأحيان، نؤمن بالله بطريقة سطحية، ونعيش وكأن الله غير موجود (etsi Deus non daretur). أخيرًا، يبان أن طريقة العيش هذه هي أكثر تدميرًا لأنها تؤدي الى عدم المبالاة بالإيمان وبمسألة الله.

في الواقع، إن تم فصل الإنسان عن الله، يصبح حجمه ضئيلا، ويفقد بعده العمودي فيصبح يعيش بعدًا أفقيًّا، وهذه الضآلة، هي واحدة من الأسباب الأساسية للتوتاليتاريات التي خلفت عواقب مأساوية في القرن الماضي، كذلك أزمة القيم التي نراها اليوم. بتعتيمنا المرجعية الى الله، حجبنا أيضًا الأفق الأخلاقي، لنفسح مجالا للنسبية، ولمفهوم غامض من الحرية، الذي بدل أن يكون محررًا ينتهي بربط الرجل بالأصنام. تمثل التجارب التي خاضها يسوع في الصحراء قبل تحقيق رسالته، بشكل جيد هذه “الأصنام” التي تغري الإنسان، عندما لا يتجاوز نفسه. إذا فقد الله المركزية، يفقد الإنسان مكانته الصحيحة، فلا يعد يجد مكانته في الخالق، وفي العلاقات مع الآخرين. ما تثيره الحكمة القديمة مع أسطورة بروميثيوس لا يزال صحيحًا: يعتقد الإنسان أن بإمكانه أن يصبح هو “الله” نفسه، رب الحياة والموت.

أمام هذه اللوحة، لا تنفك الكنيسة الأمينة لعهد المسيح تؤكد الحقيقة حول الإنسان ومصيره. يؤكد المجمع الفاتيكاني الثاني كخلاصة:” إن أكثر جوانب الكرامة البشرية سموًّا يتواجد في دعوة الإنسان هذه للشراكة مع الله، هذه الدعوة التي يوجهها الله للإنسان ليحاوره تبدأ مع وجود البشرية. لأنه إن وجد الإنسان فالله هو الذي خلقه بحب، وبحب أيضًا لا ينفك يجعله موجودًا. ولا يعيش الإنسان ملء الحياة وفقًا للحقيقة إن لم يعترف بحرية بهذا الحب ويسلم نفسه لخالقه.” (Cost. Gaudium et spes, 19).

ما هي الإجابات إذا التي يدعى الإيمان لإعطائها “بوداعة واحترام”، حول الإلحاد، والتشكيك، واللامبالاة بالبعد العمودي، بحيث يمكن للإنسان المعاصر أن يكمل تساؤلاته حول وجود الله، والسير في الطرق التي تؤدي اليه؟ أود أن أشير الى بعض الطرق، التي تأتي إن من التأمل الطبيعي، أو من قوة الإيمان. سألخصها بإيجاز في ثلاث كلمات: العالم، والإنسان، والإيمان.

أول
ا: العالم. إن القديس أغسطينس الذي بحث طويلا في حياته عن الحقيقة، وقد تملكته الحقيقة، كتب صفحة جميلة جدا وشهيرة حيث يؤكد ما يلي: “اسأل جمال الأرض، والبحر، والهواء أينما يمتد؛ اسأل جمال السماء…اسأل كل هذه الحقائق. ستجيبك كلها انظر الينا وتأمل كم نحن جميلات. جمالها كتسبيح ثنائها. إذا من أبدع هذه المخلوقات الجميلة المتغيرة الا الذي هو بحد ذاته الجمال الثابت؟” (Sermon 241, 2: PL 38, 1134). أعتقد بأننا بحاجة الى العثور، ونجعل إنسان اليوم يعثر على القدرة لتأمل الخلق، وجماله، وهيكله. ليس العالم صهارة لا شكل لها، ولكن كل ما عرفناه أكثر اكتشفنا فيه آليات رائعة، ورأينا خطة، وعرفنا بأن هناك ذكاء خلاق. كان ألبرت أينشتاين يقول أنه في قوانين الطبيعة “يتجلى ذكاء خارق تبدو بالمقارنه به كل عقلانية التفكير وكل النظم البشرية كانعكاس طفيف” (Comment je vois le monde, Flammarion 1999). الطريق الأول إذا الذي يقود لاكتشاف الله، هو التأمل بالخلق بعينين يقظتين.

الكلمة الثانية: الإنسان. من جديد يملك القديس أغسطينس جملة شهيرة حيث يقول بأن الله أقرب من ذاتي إلي (cf. les Confessions III, 6, 11). من هنا يطلق الدعوة التالية: “لا تبتعد عن نفسك، بل تعمق بذاتك: ففي الإنسان الداخلي تكمن الحقيقة.” (De vera religione, 39, 72). هذا هو جانب آخر نوشك على فقدانه في هذا العالم الصاخب والمشتت الذي نعيش فيه: القدرة على التوقف، والنظر في أعماقنا وقراءة هذا العطش اللامتناهي الذي نحمله في داخلنا، والذي يدفعنا بالذهاب بعيدًا ويعود الى “شخص” يمكنه اشباعه. يؤكد تعليم الكنيسة الكاثوليكية: “مع انفتاحه على الحقيقة والجمال، وحسه بالخير الأخلاقي، وحريته، وصوت ضميره، وشوقه للأبدية والسعادة، يتساءل الإنسان عن وجود الله. من خلال كل ذلك يلمس أدلة عن نفسه الروحية، التي هي “بذر الأبدية الذي يحمله في ذاته والذي لا يمكن تلخيصه بالمادة وحدها”، (GS 18, § 1 ; cf. 14, § 2), لا يمكن أن يكون لنفسه من مصدر سوى الله” (n. 33).

الكلمة الثالثة: الإيمان. في واقعنا هذا، لا يجب علينا أن ننسى بأن طريق واحد يؤدي نحو معرفة الله واللقاء به وهذا الطريق هو حياة الإيمان. من يؤمن يتحد بالله وينفتح على نعمته، وعلى قوة المحبة. فيصبح وجوده شهادة لا عنه، بل عن القائم من الموت، ولا يخاف إيمانه من أن يظهر في الحياة اليومية، هو منفتح على الحوار الذي يعبر عن صداقة عميقة لطريق كل إنسان وتعرف كيفية فتح أنوار رجاء امام حاجة الخلاص، والسعادة، والمستقبل. في الحقيقة، إن الإيمان هو لقاء مع الله الذي يتكلم ويتصرف في التاريخ والذي يغير حياتنا اليومية، مغيّرًا عقلياتنا، والأحكام القيمية، والخيارات، والتدابير. هو ليس وهم، أو هروب من الحقيقة، أو ملجأ مريح، عاطفي، بل هو وصمة للحياة بأكملها، وإعلان للإنجيل، البشرى السارة القادرة على تحرير كل إنسان. يشكل المسيحي، والجماعة الناشطة الأمينة لمشروع الله الذي أحبنا أولا، طريقًا مثاليًّا لأولئك الذين يعيشون في اللامبالاة أو الشك حول وجودهم وأعمالهم. هذا يتطلب من كل شخص أن يجعل شهادة إيمانه شفافة أكثر، منقيًا حياته لتتوافق مع المسيح. عدد كبير اليوم يمتلك مفهومًا محدودًا للإيمان المسيحي، لأنهم يعرفونه أكثر بنظام بسيط من المعتقدات والقيم أنه مع حقيقة أن إله واحد ظهر في التاريخ، طامحًا للتواصل مع الإنسان وجهًا لوجه في علاقة حب معه. في الواقع، ضمن أساس كل قيمة أو عقيدة هناك حالة اللقاء بين الإنسان والله بيسوع المسيح. قبل أن تكون المسيحية من الأخلاقيات هي حالة حب، استقبال شخص يسوع. لذلك، يجب على المسيحي والجماعات المسيحية أن ينظروا ويجعلوا الآخرين ينظرون نحو المسيح، الطريق الحقيقي الذي يؤدي نحو الله.

***

نقلته الى العربية نانسي لحود- وكالة زينيت العالمية

جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير