"مملكتي ليست من هذا العالم"

عظة البابا بندكتس السادس عشر في 25 نوفمبر 2012

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

الإثنين 26 نوفمبر 2012 (ZENIT.org)- ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر نهار الأحد 25 نوفمبر 2012، الأحد الأخير من السنة الليتورجية في بازيليك القديس بطرس بمناسبة عيد السيد المسيح ملك الكون.

***

السادة الكرادلة،

أيها الإخوة الأجلاء في الأسقفية والكهنوت،

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

إن عيد المسيح ملك الكون الذي يتوج السنة الليتورجية، يغنيه اليوم انضمام ستة كرادلة جدد الى مجمع الكرادلة، الذين دعيتهم وفقًا للتقليد ليحتفلوا معي بالإفخارستيا هذا الصباح. أتقدم من كل واحد منهم بأحر التهاني، شاكرًا الكاردينال جايمس مايكل هارفاي على الكلمات الطيبة التي وجهها الي باسم الجميع. أرحب بالكرادلة الآخرين والأساقفة الحاضرين، الى جانب السلطات الحاضرة، السيدات والسادة السفراء، الكهنة، الرهبان، وكل المؤمنين، بخاصة الذين أتوا من الأبرشيات التي سيعهد بها للكرادلة الجدد.

في هذا الأحد الأخير من السنة الليتورجية، تدعونا الكنيسة لنحتفل بالسيد المسيح ملك الكون. تدعونا لننظر نحو المستقبل، أو بشكل أكثر عمقًا نحو وجهة التاريخ الأخيرة التي ستكون الحكم الأخير والأبدي للمسيح. كان في البدء مع الآب، عندما خلق العالم، وسيظهر حكمه في نهاية الأزمنة، عندما يجازي كل إنسان. تخبرنا قراءات اليوم الثلاث عن هذا الحكم.

في نص اليوم المأخوذ من إنجيل القديس يوحنا، يجد يسوع نفسه في وضع مهين، حيث يتم اتهامه أمام السلطة الرومانية. لقد تم توقيفه، وإهانته، وتمت السخرية منه، ويأمل أعداءه الآن أن تتم إدانته بحكم الصلب. لقد قدموه لبيلاطس كشخص يطمح لسلطة سياسية، كملك اليهود. بدأ بيلاطس تحقيقه وسأل يسوع: “هل أنت ملك اليهود؟” (يو 18، 33). بإجابته عن هذا السؤال يحدد يسوع طبيعة ملكه، ومسيحانيته التي ليست سلطة دنوية، بل حب يخدم؛ يؤكد بأنه لا يجب الخلط ما بين ملكه وأي سلطة سياسية: “مملكتي ليست من هذا العالم…مملكتي ليست من ههنا” (الآية 36).

من الواضح أن ليس ليسوع أي طموح سياسي. بعد تكثير الأرغفة، أراد الشعب الذي أثارت المعجزة حماسه، أن يعلنه ملكًا، للإنقلاب على السلطة الرومانية وإنشاء حكم سياسي جديد، الذي كان سيعتبر كملكوت الله الذي لطالما تم انتظاره. ولكن يسوع يعلم بأن ملكوت الله من نوع آخر ليس مبنيًّا على الأسلحة والعنف. إن تكثير الخبز هو الذي أصبح من جهة رمز المسيحية، ولكن من ناحية أخرى تحول في عمله: ابتداءً من تلك اللحظة، أصبح سلوك درب الصليب أكثر وضوحًا؛ هنا، من خلال عمل محبة سام ظهر الملك المنتظر، ملكوت الله. ولكن الحشد لا يفهم، بل شعر بخيبة وانسحب يسوع، وحده، الى الجبل ليصلي (راجع يو 6، 1- 15).

نرى في نص الآلام كيف أن التلاميذ أيضًا، مع أنهم شاركوا يسوع حياته، وسمعوا كلامه، كانوا يفكرون بملك سياسي، سينشأ بالقوة. في بستان الزيتون استل بطرس سيفه وبدأ بالقتال، ولكن يسوع منعه (راجع يو 18، 10-11). لم يكن يريد أن يتم الدفاع عنه بالسلاح، ولكنه أراد أن يتمم مشيئة أبيه الى النهاية وإنشاء ملكوته لا بالسلاح والعنف، بل بالضعف الذي يظهر بالمحبة التي تعطي الحياة. إن ملكوت الله ملكوت مختلف تماما عن الممالك الأرضية.

ولهذا السبب يبقى بيلاطس رجل السلطة متفاجئًا أمام يسوع هذا الإنسان العاجز، الهش، المتواضع؛ يبقى متفاجئًا لأنه سمع بمملكة وخدم، ويطرح سؤالا متناقضًا: “إذا أنت ملك؟” وأي ملك يمكن أن يكون إنسان مثلك؟ ولكن يسوع يجيب بالإيجاب: “هو ما تقول، فإني ملك. وأنا ما ولدت وأتيت العالم إلا لأشهد للحق. فكل من كان من الحق يصغي الى صوتي” (18، 37). يتحدث يسوع عن ملك، ومملكة، ومع ذلك، لا يشير الى الملك بل الى الحقيقة. لا يفهم بيلاطس: أيمكن أن يوجد سلطة لا تتحقق بطرق بشرية؟ ملك لا يستجيب لمنطق الهيمنة والقوة؟ جاء يسوع ليكشف ملكوتًا جديدًا ويحققه، ملكوت الله؛ جاء ليشهد لحقيقة إله واحد هو محبة (1 يو 4، 8-16) ويريد أن ينشىء ملكوت عدل ومحبة وسلام (راجع المقدمة). من هو منفتح على الحب، يصغي الى هذه الشهادة ويقبلها بإيمان ليدخل الى ملكوت الله.

نجد هذا المنظور في القراءة الأولى التي سمعناها للتو. يتنبأ النبي دانيال بسلطة شخص غامض ستقوم بين السماء والأرض: “كنت ارى في رؤى الليل و اذا مع سحب السماء مثل ابن انسان اتى و جاء الى القديم الايام فقربوه قدامه فاعطي سلطانا و مجدا و ملكوتا لتتعبد له كل الشعوب و الامم و الالسنة سلطانه سلطان ابدي ما لن يزول و ملكوته ما لا ينقرض” (7، 13-14). تعلن هذه الكلمات ملكًا يحكم من البحر الى البحر الى أقاصي الأرض، بفضل سلطة مطلقة لا تحطم أبدًا. إن رؤية النبي هذه منورة، وتحقق بالمسيح: ملك المسيح الحقيقي، ملكًا لا يغيب أبدًا ولا يحطم أبدًا ليس كملك الأرض يرتفع وينهار، بل هو ملك الحقيقة والمحبة. يفهمنا هذا كيف أن المملكة التي أعلن عنها يسوع في الأمثال ظهرت أمام بيلاطس كمملكة للحقيقة، التي تعطي لكل شيء نوره وعظمته.

في القراءة الثانية يؤكد كاتب الرؤيا على أننا نحن أيضًا نشارك بملك المسيح. ففي النداء الموجه “للذي أحبنا وخلصنا من خطايانا على الصليب” يقول أنه هو “جعلنا نحن الملكوت وكهنة الله أبيه” (1، 5-6). من الواضح هنا أيضًا هي مملكة مبنية على العلاقة مع الله، مع الحقيقة، وليس مملكة سياسية. بتضحيته فتح لنا يسوع طريقًا لعلاقة عميقة مع الله: فبه أصبحنا أبناء الله بالتبني، وأصبحنا مشاركين بملكه في العالم. أن نكون تلاميذ يسوع يعني ألا نترك منطق القوة الدنيوية يقودنا، بل أن نجلب ا
لى العالم نور حقيقة الله ومحبته. بعد ذلك يوجه كاتب الرؤيا نظره نحو مجيء يسوع الثاني ليدين البشر وليقيم الملك الإلهي، ويذكرنا بأن الارتداد كاستجابة للنعمة الإلهية، هو الشرط لتأسيس هذه المملكة (cf. 1, 7).

هذه دعوة ملحة موجهة للجميع ولكل واحد منا: أن نرتد دائما نحو ملك الله، وسيادة الله والحقيقة في حياتنا. كل يوم، نستدعيه بصلاة “ألأبانا” بهذه الكلمات: “ليأت ملكوتك”؛ هذا يعني أننا نقول ليسوع: “أيها الرب اجعلنا لك، احيا فينا، جمع البشرية المشتتة والتي تعاني، لكي بك يخضع كل شيء للآب برحمة ومحبة.”

لكم، أيها الكرادلة الأجلاء، بالأخص الذين تمت سيامتهم البارحة، تعهد اليهم هذه المسؤولية الثقيلة: الشهادة لملكوت الله، للحقيقة. أي تفضيل أولوية الله ومشيئته على مصالح العالم وقدراته. كونوا على مثال يسوع الذي أمام بيلاطس وفي الوضع المهين الذي وصفه الإنجيل أظهر مجده: أي الحب الى النهاية، ببذل حياته لأجل الناس الذين يحبهم. هذا هو ملكوت يسوع. لذلك لنصل بقلب واحد وروح واحدة: « Adveniat regnum tuum » أي “ليأت ملكوتك”. أمين.

***

نقلته الى العربية نانسي لحود- وكالة زينيت العالمية

جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير