بقلم الأب فرنسوا عقل
روما، الاثنين 10 ديسمبر 2012 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي القسم الثاني من مقالة الأب فرنسوا عقل حول موضوع: الإيمان في عالم اليوم. من الممكن مراجعة القسم الأول من المقالة على هذا الرابط.
* * *
I. الإيمان فعل شخصيّ وجماعيّ
الإيمان بادئ ذي بدء هو فعل شخصيّ إذ يجب أن “أؤمن” شخصيّا أوّلا، كجواب حرّ على مبادرة الله الذي يكشف ذاته، لكنّه ليس فعلا منعزلا. بل هو إيمان الكنيسة الذي يعترف به كلّ مؤمن على حدة. تلك الكنيسة المنسكبة من قلب الفادي المطعون بالحربة… إنّها الأمّ والمربّية لإيماننا. أعطتنا الإنجيل ومنحتنا المعموديّة وسائر الأسرار… وسوف تبقى لنا ضمانة عيش الشّركة في الإيمان[1] والشّاهدة لحقيقة ما تلقيّناه من مبادئ وقيم وتعاليم. فهي التي قد أكّدت لنا منذ ألف وستمائة سنة ونيّف، أنّ الأناجيل الأربعة التي في متناول أيدينا صحيحة بينما سائر الأناجيل منحولة وكاذبة، نظير إنجيل برنابا ويعقوب وغيره. فهل يعقل أن نؤمن بالأناجيل الحقيقيّة التي قرّرت الكنيسة نفسها صحّتها، ثمّ نرفض تعاليمها الأخرى؟ فإمّا أن نقبل منها كلّ شيء أو نرفض كلّ شيء. فالمسألة ليست انتقائيّة أو استنسابيّة! إن كانت الكنيسة حقّا جسد المسيح السّرّيّ وهو رأسها كما أكّد بولس، فمن واجب الوجوب إذاً أن يكون الرّاس المشار إليه هو من يدبّر شؤونها ومصيرها. وعليه، إنّ تعاليمها الإيمانيّة والأدبيّة منبثقة من رأسها القدّوس والمقدِّس، وهي تعاليم سماويّة مقدّسة.
وفي هذا السّياق تحدّث اللاهوتيّ الألمانيّ كارل رهنير، عن ما أسماه بِالإيمان الأخويّ، أي الشّهادة الجماعيّة لما نحياه بالإيمان والصّلاة[2]. كما لم تزل عبارة القدّيس قبريانوس المعروفة تدويّ في أذهان ذوي بعض الثّقافة المسيحيّة “من ليست الكنيسة أمّه لا يستطيع أن يكون الله آباه”. فالإيمان إذا هو أيضا فعل جماعيّ.
II. إشكاليّة العقل والإيمان
العقل والإيمان هبتا الله للإنسان. تصارعا في العصور المظلمة، وتصالحا في العصر الحديث. بيد أنّ ثمّة من يتشدّد بالأوّل ويلغي الثّاني ومن يتسلّح بالثّاني ويخنق الأوّل. أقرّ معظم الفلاسفة الذين تناولوا هذه الإشكاليّة بمحدوديّة العقل الذي يستطيع فقط تقبّل الأشياء المنطقيّة كحدّ أقصى، وعدم قدرته على فهم ما يتخطّى حدود العالم المحسوس والمنظور فهما كاملا ومطلقا. وقد أصاب أرسطو جوهر هذه الأفكار حين قال: “علامة العقل المتعلّم هو قدرته على تداول الفكرة بدون أن يتقّبلها”. وهنا تبدأ مسيرة الإيمان بتقبّل ما لا يستطيع العقل قبوله أحيانا.
من أشهر الذين خاضوا غمار هذه المسألة في الكنيسة منذ البدايات هو القدّيس أغوسطينوس الفيلسوف واللاهوتيّ الكبير الذي استخلص مقولة “أؤمن لكي أفهم، وأفهم لكي أومن إيمانا أفضل”[3]، حتّى بزغ نجم القدّيس توما الأكوينيّ الشّهير بعد ردح من الزّمن ليؤكّد بدوره أنّ “الإيمان فعل عقل يعتنق الحقيقة الإلهيّة بأمر الإرادة التي يحرّكها الله بالنّعمة”. و”اليقين الصّادر عن النّور الإلهيّ أعظم من اليقين الصّادر عن نور العقل الطّبيعيّ”. ثمّ ركّز على أهميّة التّأمل في الحقائق الإيمانيّة: “إن أردنا أن نرى الأشياء كما هي، فيجب أن نصبح تأمّليّين، فالتّأمّل الحسّيّ هو انفتاح العقل الهادئ على ما يقابله”[4]. ممّا يلتقي مع ما أكّده بولس الرّسول: “إنّ نعمة الإيمان تفتح عيني القلب” (أف 1: 8).
أمّا في العصر الحديث –كي نختصر المسافات-، فقد تناول الطّوباويّ البابا يوحنّا بولس الثّاني هذه الإشكاليّة بعمق، في رسالته الحبريّة “الإيمان والعقل” “Fides et Ratio” عام 1998، مؤكّدا أنّ الإيمان والعقل هما بمثابة الجناحين اللذين يمكّنان العقل البشري من الارتقاء إلى تأمل الحقيقة.
وعليه، تقدّر الكنيسة العلم كوسيلة للاكتشافات والتطّوّر، وتعتبر أنّ الفلسفة “مهمّة” من أنبل مهامّ البشريّة، ومزيّة فطريّة من مزايا العقل. إلاّ أنّ هذه “المهمّة” قد تنحرف أحيانا إذا ما وقعت في فخّ «غطرسةٍ فلسفية» تدّعي وضع نظرتها الخاصّة موضع النّظرة الشّاملة للمسائل المطروحة، بالرّغم من محدوديّتها الفكريّة في موضوع المعرفة المطلقة. لكنّها تتوسَّم في الفلسفة وسيلة لا بدّ منها للتّعمق في فهم الإيمان، وتبليغ حقيقة الإنجيل للذين لم تصل إليهم بعد.
[1] المرجع نفسه، 166-169.
[2] Cf. Karl Rahner, Vivre et croire…, p. 54.
[3] (ت م م ك) ، 155، 158.
[4] راجع، تيموثي رادكليف، (تعريب فراس ياقو يوحنّا) ما الغاية من أن يكون المرء مسيحيّا، دار المشرق، بيروت، 2010، ص. 184.