الإيمان في عالم اليوم (3)

تحدّيات الإيمان في عالم اليوم

Share this Entry

روما، الثلاثاء 11 ديسمبر 2012 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي القسم الثالث من مقالة الأب فرنسوا عقل حول موضوع: الإيمان في عالم اليوم. من الممكن مراجعة القسم الثاني من المقالة على هذا الرابط

* * *

I.            طاعة الإيمان

الإيمان قبل كلّ شيء، هو فعل حرّ، إذ لا يمكن إكراه أحد على اعتناقه، لأنّه ذو طابع إراديّ[1]. وما الطّاعة في الإيمان إلاّ الخضوع الحرّ للكلمة المسموعة. من نماذج هذه الطّاعة إبراهيم ومريم البتول، ويمكننا القول من دون مبالغة إنّ حياة مريم العذراء بالتّحديد، كانت تحقيقا أشدّ كمالا لهذه الطّاعة الإيمانيّة[2].

فطاعةَ الإيمان إذاً، أمر واجب لله الموحي (رو 16: 26؛ رو 1: 5؛ 2 كو 10: 5-6)، عبرها يفوّض الإنسان أمره بكامل حرّيته إلى تدبيرِ الله، مخضعا له كلّيّا عقله وإرادته، راضيا بقبول كلّ الحقائق التي يكشفها له؛ ولكيما يؤمن على هذا المنوال، تراه بحاجة إلى نعمة الله السّابقة والدّاعمة، وإلى معرفة الرّوح القدس الدّاخليّة؛ فهذا الرّوح بالذّات لا يفتأ يكمّل الإيمان بمواهبه، من أجل تعميق فهم الوحي شيئا فشيئا[3].

II.            تحدّيات الإيمان في عالم اليوم

ثمّة تحدّيات كثيرة تعتري مسيرة الإيمان في عصرنا الحديث، أوّلها مشكلة الإلحاد المتعدّد الوجوه. إنّه نكران الله أوّ إعلان موته كما فعل الفيلسوف الألمانيّ نيتشه (Nietzsche)حين قال: “المؤمنون مرضى ومحتضرون احتقروا الجسد واخترعوا السّماويّات وقطرات الدّم الفادية. العبيد اخترعوا الله والسّادة قتلوه. لقد قتلنا الله، أنا وأنتم. فجميعنا قتلة الله”[4]. إلاّ أنّ آخرين اعتقدوا أن الإنسان لا يقدر أصلاً أن يؤكّد شيئاً عن الله ومن هنا انبثق مذهب “اللاأدريّة”. أي لسنا ندري إن كان الله موجودا أم لا.  ويتطرّق آخرون أيضاً -بحسب المجمع الفاتيكانيّ الثّاني- إلى التّعمّق في إشكاليّة وجود الله بمنهجيّة تظهر كأنّ لا معنى لها ولا جدوى منها. ويؤمن الكثيرون بإمكانيّات العلم حتّى حدود الصّنميّة العلميّة متجاوزين بذلك حدود العلوم الإيجابيّة من دون أي مبرّر، مؤلّهين العلم، زاعمين أنّ العقل العلميّ وحده يشرح كلَّ شيءٍ، أو بالعكس لا يقرّون مطلقاً بأيّة حقيقة ثابتة بصورةٍ نهائيّة. كما قد يبالغ بعضهم في تعظيم الإنسان إلى حدِّ زعزعة الإيمان بالله منشغلين بتأكيد وجود الإنسان أكثر مما هم منشغلون بإنكار الله. ويتصوّر بعضهم الله بشكل يجعلهم يرفضون إلها لم يتكلم عليه الإنجيل أبداً. وثمّة أناس لا يتطرّقون حتّى إلى إشكاليّة وجود الله، بل لا يهتمّون بهذا الأمر البتّة ولا يريدون ذلك، فهم أقرب إن جاز التّعبير إلى تيّار “اللامبالاتيّة”[5]. وما قد يزعج العقل أيضا في هذا الصّدد، هو أنّ ثّمة أناس ينكرون وجود الله جهارا وتراهم يؤمنون أحيانا بأي شيء آخر[6]، كالتّبصير والتّنجيم وعالم الغيب والسّحر والشّعوذة. أو يؤمنون بالله نظريّا ويكفرون به في أعمالهم، وهذا -في اعتقادنا- لون من ألوان الإلحاد، لأنّهم يحيون وكأنّ الله غير موجود. وهنا يمكنني أن أفهم نيتشه حين قال: “المسيحيّون بعد لا يعملون بتعاليم المسيح، ولا يعلمونها. واحد كان مسيحيّا وقد مات على الصّليب”[7]. إلاّ أنّ هذا لا يبرّر المواقف الإلحاديّة الضّالّة والمضلّة من أيّة جهة أتت.

زد على ذلك، مسألة الاكتشافات العلميّة المذهلة، والتّطوّرات التّكنولوجيّة السّريعة التي تفاجئ العالم كلّ يوم وتضع المؤمن على مفترق طرق جديد، أمام ثنائيّة استعمالها وكيفيّة الإفادة منها بطريقة تتآلف والمبادئ الإيمانيّة والضّميريّة والأدبيّة التي نشأ عليها. إنّها تحدّ لا يستهان به، إذ أصبحت وسائل الإتّصال الاجتماعيّ سهلة المنال والاستعمال، لا تستخدم لدى أكثر النّاس إلاّ في بُعدها الأفقيّ، بدون أن يبقى للبعد العاموديّ-الإلهيّ، إلا القسط الضّئيل منها. 

كما أنّ العولمة التي تجرف البشريّة بتيّاراتها الجديدة بالرّغم من بعض حسناتها، تكاد مخاطرها تزجّ بالعالم أجمع في بوتقة ثقافة عالميّة مادّيّة، بعيدة في أكثر الأحايين، عن الإيمان بيسوع المسيح والحقائق الإيمانيّة الكاثوليكيّة الثّابتة، ممّا يخلّف تداعيات كثيرة، منها: تراجع القيم العائليّة والمسيحيّة والإنسانيّة، ونشر الإباحيّة الوقحة، والمتاجرة بالمرأة، ومضاعفة تفشّي إدمان المخدّرات والقمار والكحول، ووحشيّة التّزاحم الاقتصاديّ الجشع، والاستهلاكيّة المادّيّة المذلّة، حيث ترى الإنسان سلعة وأداة استهلاك.

وماذا نقول أخيرا عن البدع العديدة التي تنتشر في عالمنا كسرعة البرق، وتعيث فسادا إيدولوجيّا وإيمانيّا وفكريّا وانحرافيّا وسلطويّا؛ كالماسونيّة، والعصر الجديد، وشهود يهوى، وعبدة الشّيطان… ناهيك عن التّحوّلات الجيو-ديموغرافيّة التي تسبّبها الحروب والنّزاعات التي لا تنتهي، والاضطهادات الدّينيّة والعرقيّة، والتّعصّب الدّينيّ والسّياسيّ والتّحزّبيّ، ومعضلة رفض الآخر المختلف، وأثرها السّلبيّ على الإيمان في عالم اليوم[8].

       خلاصة         

إنّ عصرنا اليوم هو بأمس الحاجّة إلى إعادة معرفة عظمة الله والإقرار بحبّه، ومبادلته الحبّ عبر احترامنا لصورته ومثاله أي الإنسان. وكم جدير بنا أن نحيا بالشّكران لله ولفضل نعمه علينا. والإقرار نظريّا وتطبيقيّا بوحدة العائلة البشريّة، والمساواة بين جمي
ع البشر من حيث الكرامة الإنسانيّة، وحسن استخدام الكائنات الحيّة والأشياء المخلوقة، ووضع الثّقة المطلقة بالله، والإلتزام بوصاياه وتعاليمه.

وما الإيمان في الختام، بحسب الطّوباويّة الأم تريزيا دي كلكوتا، إلاّ ثمرة الصّلاة؛ وما الحبّ إلاّ ثمرة الإيمان[9].

المراجع

–         التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، التّرجمة العربيّة: المكتبة البولسيّة – جونيه، لبنان، 1999.

–         المجمع البطريركيّ المارونيّ، النّصوص والتّوصيات، بكركي، 2006،

–         المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، الوثائق المجمعيّة، نقلها إلى العربيّة يوسف بشارة، عبده خليفة، فرنسيس البيسري، طبعة ثالثة منقّحة، ]د.م.[، 1989.

–         رادكليف، تيموثي: ما الغاية من أن يكون المرء مسيحيّا، (تعريب فراس ياقو يوحنّا)،  دار المشرق، بيروت، 2010.

–         قمير، يوحنّا: نيتشه نبيّ متفوّق، دار المشرق، بيروت، 1986؛

–         Mère Teresa: Un chemin tout simple, (traduit de l’anglais par Frances Georges-Catroux et Claude Nesle), Plon/Mame, Londres, 1995.

–         Rahner, Karl: Vivre et croire aujourd’hui, (traduit de l’allemand par Jean Evrard et Henri Rochais), Desclée De Brouwer, Paris, 1967;

[1]  (ت م م ك) ، 160.                                                     

[2]  المرجع نفسه، 144.

[3]  راجع، دستور عقائديّ في الوحي الإلهيّ (و ل) 5.

 [4] راجع، يوحنّا قمير، نيتشه نبيّ متفوّق، دار المشرق، بيروت، 1986، ص. 30-31.

[5]  راجع، ك ع، 19.

[6]  راجع، تيموثي رادكليف، (تعريب فراس ياقو يوحنّا)  ما الغاية من…، ص. 175.

 [7] راجع، يوحنّا قمير، نيتشه…، ص. 30-31.

[8]  راجع، المجمع البطريركيّ المارونيّ، النّصوص والتّوصيات، بكركي، 2006، ص. 532-543.

[9] Cf. Mère Teresa, Un chemin tout simple, (traduit de l’anglais par Frances Georges-Catroux et Claude Nesle), Plon/Mame, Londres, 1995, pp. 63-79.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير