Father Ignatius Offy

Shawqi Shamoon

كاهن عراقي يخبرنا عما عاشه مع الجماعة المسيحية المهجرة من بغديدا في هذه السنة الأخيرة

مقابلة مع الأب اغناطيوس أوفي

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

مر عام على نكبة مسيحيي سهل نينوى. كثيرون منا يعرفون الأخبار من خلال وسائل الإعلام، ولكن زينيت أرادت أن تترك الكلمة لكاهن عاش التهجير وبقي بجنب شعبه في كل هذه الفترة، مرافقًا ومشجعًا، مرشدًا ومعلمًا. في هذه المقابلة يحدثنا الأب أغناطيوس أوفي عن خبرته.

* * *

هلا تفضلت أولاً بالتعريف عن نفسك وعن بغديدا؟

الأب اغناطيوس أوفي: بادئ ذي بدء، أنا كاهن سريانيّ أنتمي لأبرشية الموصل وكركوك وكردستان للسّريان الكاثوليك، وكنت أخدم كخوري رعيّة في منطقة قره قوش (بغديدا) التي تقع في محافظة نينوى شمال العراق على بعد نحو 32 كم جنوب شرق مدينة الموصل، على الضفة الشرقيّة لنهر دجلة الّذي يشكّل مع نهر الخازر المنطقة الجنوبيّة من سهل نينوى. وتتوسط بغديدا عدّة كنائس وعددًا من الأديرة التاريخيّة والتلال والمناطق الأثريّة. تعتبر البلدة كذلك مركز قضاء الحمدانيّة أحد الأقضيّة الخمسة للمحافظة.

 

كان نصيبكم الثاني بعد أن اجتاح الإرهابيون الموصل. ماذا فعلتم في الفترة ما بين النبكتين؟

     عندما سقطت مدينة الموصل بيد “داعش” في العاشر من حزيران من العامّ الماضي، ونزوح إخوتنا وأخواتنا المسيحيّين من مدينتهم، استقبلناهم في بلدتنا، وأسكناهم في بيوتنا، ووفّرنا لهم كلّ ما يحتاجون إليه من الضروريات، من مالٍ ومساعداتٍ غذائيّة وغيرها، وذلك من خلال نداء أطلقناه في جميع كنائسنا، وبتوجيهات من الكنيسة التي نحن خدّام فيها، فلاقت صرختنا صدًى قويًّا عند مؤمنينا وعند بعض المحسنين والخيرين الذين تجابوا تجاوبًا إيجابيًّا معنا. وتضامنا بالأكثر مع إخوتنا الذين طردوا من بيوتهم وتمّ الاستيلاء على كلّ ممتلكاتهم وأفرغت مدينة الموصل منهم بشكلّ نهائي بعدما خيّرهم “داعش” بين الاسلام أو دفع الجزية أو الخروج بثيابهم فقط في العشرين من شهر تمّوز من العامّ الماضي.

 

     وفي نهاية شهر حزيران تعرّضت منطقتنا بغديدا لإعتداء من “داعش”، فقاموا بإطلاق قذائف الهاون علينا، ممّا تسبّب في خلق حالة من الخوف والفزع عند أهلنا، فنزح معظمهم إلى مناطق قريبة منّا وإلى إقليم كردستان ولبضعة أيّام وعادوا بعد أن هدأت الأوضاع نسبيًا. وفجر يوم الأربعاء 6/ 8 إزداد التشنج بين داعش والأكراد الذين كانوا يحموننا، وبدأت قذائف الهاون تسقط في منطقتنا. وبعد أن صلّينا المزمور 120 الّذي يقول المزمّر في نهايّته: “إنّي إذا تكلّمت فلِلسِّلْمِ، أمَّا هم فلِلحَرْبِ” واحتفلنا بـ “عيد التجلّي” وخرجنا من القدّاس إزداد القصف والتهديد بالترحيل والناس تخرج قوافل وقوافل من البلدة وخاصّة بعد وقوع قذيفة هاون على بيت وتسبّبه بمقتل طفلين وشابة وفي الساعة الخامسة عصرًا صلّينا صلاة الجناز عليهم في كنيسة الطاهرة الكبرى وتمّ دفنهم في مقبرة القيامة وأصوات الحرب تعلو أكثر وأكثر فعدت إلى الإكليريكيّة واحتفلت بآخر قدّاس في الساعة 00، 6 عصرًا مع 25 مؤمنًا ومؤمنة وقدّمت القدّاس في حينها من أجل السلام والأمان في بلدنا وقلت للحاضرين: “إذا طلبوا منّا أن نتخلّى عن إيماننا المسيحيّ فلا نضعف ونقبل ونرضخ للواقع، بل لنكن مستعدّين أن نُقدّم شهادة الدم إذا اقتضى الأمر ونموت مسيحيّين!”.

فبدأت البلدة تفرغ من ساكنيها، وعندما أردنا نحن الخروج من البلدة، تفاجأنا بوجود أناس كثر عند دار الكهنة، فتوقفنا لنرى كيف يمكننا مساعدتهم للخروج من البلدة؟! فدخلت إلى دار الكهنة، وأخرجت قناني الماء ووزّعتها على الناس، وأطلقنا نداءً للذين كانوا متواجدين هناك: من منكم يستطيع أن يقود حافلات الكنيسة؟ فأبدى الكثيرون استعداهم وتعاونوا معنا في نقل أكبر عدد ممكن من الناس ممّن لم يكن لديهم وسيلة تقلّهم من بغديدا إلى أربيل، وفي الساعة 45: 2 بالضبط رأينا جماعة الحزب الذي مقابل دار الكهنة ينسحبون ومن بعدهم جماعة مقر الحراسات في البلدة فخرجنا بعدهم بقليل أي قبل أن يدخل إليها “داعش” بساعتين أو أكثر ونزحنا إلى إقليم كردستان في شمال العراق وآخرين نزحوا إلى كركوك وبغداد وجنوب العراق والكثيرين من مؤمنينا رحلوا إلى تركيا والأردن ولبنان وفرنسا وأمريكا وغيرها ولا زال أناس كثيرون يرحلون بسبب الأوضاع الصعبة التي نعيشها في بلدنا الجريح العراق. فكم هو مؤلمٌ أن تفرغ مناطقنا من سكانها الأصليّين ونتخلّى عن كلّ شيء كنا نملكه، ولكن المهم أنّنا حافظنا على إيماننا ولم نخسره أو أجبرنا على ذلك!  

هلا أخبرتنا أكثر عما اختبرته بعد تهجيركم؟

     وصلت إلى عينكاوة وبقيت ملتزمًا أكثر من ثلاثة أشهر في (مخيّم مزار مارت شموني في عينكاوة) حيث كانت تتواجد أكثر من 650 عائلة أي أكثر من 2000 شخص تنام النساء في الكنيسة والرجال في الساحة الخارجية والحدائق المحيطة بالمخيّم التي كانت مقابله وحتّى على الأرصفة الأرصفة! كنت في البداية أعطي الوثائق الكنسيّة من شهادة العماد والتثبيت ومطلق الحال ووثيقة الزواج للذين كانوا يطلبونها من أجل السفر وترك البلد وشاركت في إقامة صلاة للنازحين في المخيّم وفي تقديم المساعدة لإغاثة النازحين وكنت من أحد الأشخاص الذين ساعدوا في تهيئة خيمة للطبابة في المخيّم ورافقت الكثير من الوفود وخاصّةً اللبنانيّة منهم في زيارة المخيّمات وتقديم المساعدات الإنسانيّة والطبيّة والصحيّة التي جمعوها بحملة التبرعات التي أقاموها في لبنان أو التي اشتروها
من العراق ووزّعوها للنازحين المسيحيّين وللآيزيديّين وممن رافقتهم ولأكثر من مرّة: جماعة الرابطة الكتابيّة، وجمعيّة من حقّي الحياة، وشباب مشروع يسوع، وكنت أحد الأشخاص الذين بقوا في تواصل مع الناس الذين صمدوا في البلدة أي أسرى عند “داعش" وأتذكّر في المخيّم أنّني عرّفت (أي منحت سرّ التوبة والمصالحة) لأشخاص في سيارتي الشخصيّة وعمّدت وكلّلت وقدّست مع بعض إخوتي الكهنة بدون ملابس طقسيّة أو ليتورجيّة واستخدمنا في الكثير من المرّات الخبز العادي ليكون جسد المسيح وأصبحت طاولة في المدرسة مذبحًا والشرشف العادي شرشفًا للمذبح وقدّست في ساحة عامّة وفي ساحة مدرسة وفي ملعب للعب كرة القدم وفي قاعة للمناسبات وفيما بين أروقة مبنى مخصّص لبيع الملابس فأصبحت هذه الأمكنة المذكورة بدل مبنى الكنيسة ومن بداية تهجيرنا وحتّى اليوم أكون قد قدّست في أكثر من 20 كنيسة ودير ومخيّم للنازحين (من ساحة أو ملعب أو قاعة أو مدرسة …).

 

ما كان شعورك لدى قيامك بالاحتفال بهذه الحالات المختلفة؟

في الكثير من المرّات بكيت من شدة التأثّر وأبكيت آخرين وكنت أشعر بالضعف والعجز وعدم قدرتي على تقديم أي شيء للنازحين ولكن دائمًا كنت أتكلّم مع الناس عن الأمل وعن الرجاء وعن قرب الله منّا وهو سيحرّرنا ويردّ سبينا ولا بدّ أن يكون بعد عذابنا هذا قيامة وفرح وعودة لمناطقنا التي هجّرنا منها قسرًا وتعلو الأفراح ونبني من جديد كلّ ما دمّره “داعش” وكلّ أحد وعيد ومناسبة أذكّر الناس كم مرّت من الأيّام والآحاد ونحن في المنفى وفي الغربة عن أرضنا ومناطقنا وبيوتنا وكنائسنا وأديرتنا وأحاول أن أرفع من المعنويات وأحثّ الناس على قراءة الكتاب المقدّس والتأمّل فيه وأدعوهم للحضور إلى لقاءات أسبوعيّة حول كلمة الله في خيمة بسيطة (خيمة التجلّي) وعلّقت على الكثير من المزامير التي كنت أضعها على الفيس بوك وكتبت الكثير من الكتابات على الفيس كلّها كتابات أدعو فيها لعدم فقدان الأمل وقطع الرجاء بالله وإنّما وضع الثقة بمراحمه الغزيرة وصحيح أنّ أكثرية الناس مجروحين مما حدث ومصدومين من هول وحجم المأساة ومتعبين نفسيًّا واقتصاديًّا … ولكنّ إيمانهم لا زال قويًّا بالرغم من العاصفة الأخيرة التي ضربت كنيسة الله في العراق وجعلتها تتمايل مثل القصبة ولا تنكسر ولا تلتقي بشخص وتسأله عن حاله إلاّ ويقول لك: الحمد لله! الشكر لله!

     خبرة مؤلمة جدًّا عشتها ولا زلت أعيشها منذ اثنا عشر شهرًا ولكنها عرّفتني على ضعفي وعجزي وكشفتني على حقيقتي كما هي وعرّت الآخرين وأظهرتهم على حقيقتهم وعلّمتني أن أتفهّم الآخر وأن أكون حاضرًا معه في كلّ ما يعيشه ويختبره وأهم شيء شعرت بحضور الله المكثّف في حياتي من خلال رجوعي الدائم لقراءة الكتاب المقدّس وأحداثه بطريقة مختلفة ولم أشعر بقرب الله منّي مثلما شعرت به في المحنة ويطول الحديث … .

 

كيف نستطيع نحن كوكالة أنباء كنسية أن نساعدكم؟

     إن الدور الذي قامت وتقوم به (زينيت) هو دور مهم حيث من خلالها نوصل صورتنا وصوتنا للعالم من أجل المزيد من التضامن معنا وعلى جميع الصعد وخاصّة على الصعيد الروحيّ أي الصلاة من أجلنا لنبقى ثابتين في إيماننا وصابرين بالرغم من ثقل الصليب الذي أحنى ظهرونا … نريد من زينيت باعتبارها وسيلة إعلاميّة مهمة وتصل إلى عدد كبير من الناس في كلّ أنحاء العالم أن تبقى مستمرة في نهجها أي تقديم كلّ ما يبني وما يفيد الإنسان المسيحيّ وخاصّة خدمة الكلمة وبشتّى المجالات. ونحن نشكركم على كلّ ما تقومون به والربّ يكافؤكم ويعضدكم بروحه القدّوس المحيي.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

شوقي شمعون

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير