” مبارك أنت يا رب لأنك خلقتني “.
بهذه الكلمات أغمضت القديسة كلارا عينيها عن عمرها على الأرض لتفتحهما على أبدية سمائها.
في مقابل ما نررده بشكل شبه يومي، من :” يا ليتني لم أولد!”- “كلّ مين خلق علق!”- و ” ما كان كمل الكون بدوني”… أو ما شابه:
قد يستغرب البعض هذه الكلمات التي تلفظتها القديسة الأسيزية و أيضاً توقيتها: فهي كانت تواجه الموت في هذه الأثناء!!!
لكن، في الحقيقة أمام هول الموت أبناء الله لا يرون السواد الأعظم، لا يرون العدم إنما يرون وجه الله . ومن رحم الموت يرون ولادة، و عكس كل المحيطين الباكين هم يبتسمون لوجه الخالق “الأمومي”!!!
بين طيّات هذه الكلمات البسيطة عمق قداسة: قداسة من ميّزت الرب المخلص من الخلق حتى الفداء وصولاً الى السماء.
يتحدث شراح الكتاب المقدس عن أول عملية خلاص. يقولون أنها تتم في الخلق : حين يخلص الرب بمحبته الإنسان من العدم.
لذلك أولى خطوات القداسة تكون بمحبة الحياة….. بكل مراحلها وتحديّاتها.
إنّ الله خلق العالم بكلمته… و في عمق كلمة “كن”، دعوة إلى الوجود، الى الحياة، الى الحب… و كأن الله فيما هو “يقبّل ” الإنسان و يودع فيه نسمة من روحه القدوس يهمس له : “أريدك، أرغب فيك ، أحبّك ” هيا إنطلق بحرية!!!
و لكن يحصل أنه عندما يستفيق الإنسان على الحياة … تصدمه كلمات أخرى غير تلك التي لا يكف الرب عن همسها له مع كل نَفَس. فتتصادم كلمة الخالق مع كلمة الشيطان، كلمة الحياة مع كلمة الموت، بجميع حلله … تلك التي تنبع من شر أنانيات طافحة يخيّل لها أنها لا تستطيع الإستمرار بالعيش إلا على حساب الآخرين.
و إذا إختار الإنسان الكلام بلغة الشر، يضيق العالم…فنراه يقوم بالإجهاض ويشرّعه مطلقاً عليه كلمة :”خيار”. ينهي حياة كبار السن و يطلق على قتل الحب والوفاء و الذاكرة الحية كلمتي : “موت رحيم”. يصفق لحروب من أصناف متعددة و يطلق عليها كلمات : ” حكم الضرورة للحفاظ على المصالح…”
و تتوالى الكلمات المميتات…
و لكن فداء الرب هنا: تجسد، صلب و قام ليخلقنا من جديد. من رحم جنب المصلوب إكسير حياة و من نار العنصرة دفق روح حيّ و دفء حضور حيّ …. كلمة “كن” جديدة !! فهل من “يكون”؟!
و ها هي الأسيزية، عرفت كيف “تكون”!! تركت مال العالم الزائف و بريقه الزائل و زهدت بالدنيا لتغتني بخالق الدنيا. لم يكن تجردها قنوط من الحياة إنما وسيلة للوصول الى لبّ الحياة. فعدم التلهي بالقشور يسلّك الدرب الى الجوهر.
وسرعان ما فهمت أن الموت هو الحياة التي شوّهتها كلمة الشيطان… فقضت عمراً تحاربه و تنتصر عليه!!! من كان يتوقع يوماً أن كلارا الراهبة التي تقدمت بالعمر ، تستطيع أن تغلب فرقة كاملة من الجنود المسلحين الذين أرادوا إقتحام الدير. في ذاك اليوم، وقفت ولا بين يديها سوى القربان المقدس وبه شاءت أن “تكون” : و بالفعل مرة جديدة يثبت الرب أن كلمته أقوى!!! ففرّ الجنود…
أما في يوم فراقها مع الجسد، علمت القديسة الأسيزية أن المحبة لا تموت، و أن حياتها بدأت للتو بين يدي عريسها الإلهي.
يُنقل عن الراهبات المرافقات أن كلارا في تلك اللحظات الأخيرة بينهن، قالت جملتها الشهيرة مبتسمة و رحلت…
لا بد أنها سمعت صدى صوت الرب يدعوها كما في اليوم الأول :”كوني” و كلعازر : ” هلمي خارجاً” ، و بيسوع كلمة الله “قومي “!!!
و اليوم، فوق كل نشاز الخطأ، حبذا لو كلّ منا يسمع صوت الحب، من جديد، يخلق!!!