1. تراءى الملاك لزكريا أثناء الصلاة وحرق البخور، ما يعني أنّ الله يوحي بذاته وإرادته وتصميمه للمؤمنين أثناء الصلاة. فهي الوقت الأحبّ والأهمّ في ساعات النهار. إنها حوارالانسان مع الله وتجلّي سرّ الله وإرادته للإنسان. الصلاة هي وقت الرؤيا الداخلية، لكونها ترفع العقل والقلب إلى الله، تخاطبه وتصغي إليه.
فالليتورجيا هي المشاركة في عمل الله، وإعلان دور المؤمن والمؤمنة في هذا العمل الإلهي، من خلال ما يوحي الله ويعلن، كما جرى لزكريا. بواسطة الصلاة الليتورجية يتأصّل إنسان الباطن ويتأسس على محبة الله لنا بالمسيح (راجع افسس 3: 16-17). فندخل في إطار عمل الله وتصميمه الخلاصي بثبات الايمان والرجاء. والله يكشف إرادته في الزمن الذي يراه ملائمًا، وفي المناسبة التي يريدها. وهكذا لكل واحد منا يقول في حينه ما قاله لزكريا:“لا تخف! لقد استجيبت صلاتك”(لو1: 13).
2. مع بشارة الملاك لزكريا بمولد يوحنا، السابق للمسيح، يبدأ زمن الميلاد، المعروف أيضًا بزمن المجيء. فيوحنا يعلن مجيء المسيح الفادي ويسبقه، كما الفجر يعلن طلوع الشمس. أسم يوحنا، حسب اللفظة العبرية والآرامية، يعني “الله رحوم“. لقد تجلّت في شخصه ورسالته رحمة الله، لكنها أخذت جسدًا بشريًا بابن الله واسمًا في التاريخ هو يسوع المسيح. هذه هي هويتنا ورسالتنا: هويتنا أننا من رحمة الله ولدنا وبها خُلِّصنا، ورسالتنا هي أننا للرحمة نحن شهود.
3. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهية، ونبدأ زمن الميلاد بمسيرة رجاء وتوبة. فيطيب لي أن أحيّيكم جميعًا وبخاصة أولاد المرحومة ميمو (محبوبة) فياض وأنسباءهم. وقد ودّعناها معهم بالأسى الشديد في بداية الشهر الماضي. نذكرها اليوم بصلاتنا، ونجدد التعازي لأسرتها العزيزة. كما نحيّي الأطفال من رعيتي حصرايل وجدايل، مع كاهن الرعية العزيز الخوري وسيم أبي افرام المرشد الاقليمي لاخوية الفرسان في ابرشية جبيل، الذين احتفلوا بمناولتهم الأولى. نأمل أن يحافظوا على الرب يسوع كنزا في قلوبهم، ويشهدوا له بأعمالهم. ونحيي ايضا وفد منظمة السلام للاغاثة وحقوق الانسان الدولية، اننا نبارك عملهم في زمن باتت حقوق الانسان تُداس وتُنتهك كل يوم، ومع هذا كلهم يؤكد هؤلاء الشباب ان حقوق الانسان تبقى الاساس كي تحيا الشعوب بكرامة. كذلك فاننا نحيي اعضاء المؤسسة المارونية للانتشار.
4. ولكن يعتصر قلبنا الحزن والألم من جراء العمليتين الإجراميتين اللتين هزّتا العالم. وهما التفجير الانتحاري المزدوج في برج البراجنة، بعد ظهر الخميس، الذي أوقع ثلاثة وأربعين قتيلاً، وأكثر من مايتي جريج، وأضرارًا جسيمة في البيوت والمتاجر؛ والهجمات الإرهابية المنّسقة في باريس في مساء الجمعة، التي أوقعت مئة وستين قتيلاً ومئات الجرحى. فإننا نجدد إدانتنا الشديدة لهاتين العمليتين الإجراميتين. ونصلّي في هذه الذبيحة المقدسة من أجل راحة نفوس الضحايا وتعزية أهلهم، ومن أجل شفاء الجرحى. ونعرب عن أحرّ تعازينا للطائفة الشيعية الكريمة، وللدولة الفرنسية رئيسًا وشعبًا، راجين من السفارة الفرنسية في لبنان أن تنقل إليهم تعازينا هذه.
5. إن بلدان الشرق الأوسط تعيش منذ سنوات معاناة قاسية، فيما الأسرة الدولية تتركها فريسة التنظيمات الإرهابية، بل بعض دولها تدعم هذه التنظيمات وتمدّها بالمال والسلاح وتستخدمها لمآرب سياسية واقتصادية. هذه البلدان المشرقية تدعو مرة أخرى منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن وجامعة الدول العربية ومنظمة العمل الإسلامي، لتحمّل مسؤولياتها بجدّية في مكافحة الإرهاب، وإيقاف الحرب في فلسطين وسوريا والعراق واليمن، وإيجاد حلول سياسية لها من أجل إحلال سلام عادل وشامل ودائم، وتمكين النازحين والمهجرين والمخطوفين من العودة إلى بيوتهم وأراضيهم. وإن لم يفعلوا، سيُترك المجال مفتوحًا وسع الدنيا للإرهابيين للتنقّل من بلد إلى آخر وزرع الضحايا من دون أي رادع ورحمة. فالنار عندما تلتهب يصعب جدًا السيطرة عليها. فحذار اللعب بالنار. كما يجب تحرير الأشخاص الذين يُستغلون بالمال وغسل الدماغ في التنظيمات الإرهابية. فهؤلاء أيضًا وُلدوا في الأصل على صورة الله، ومفتدون بيسوع المسيح.
6. لا تخف، يا زكريا. لقد استجيبت صلاتك”(لو1: 13). كلمة الملاك المطمئنة والحاملة إرادة الله وتصميه الخلاصي، تتردد في أعماق كل واحد وواحدة منّا، في مختلف مراحل حياتنا وظروفها. هي للحزين والفقير، للضائع والمهمل، للشباب القلقين على مستقبلهم، وللوالدين المغلوب على أمرهم في ما يتوجب عليهم تجاه أولادهم وعائلاتهم.
لكن الله ينتظر من كل قادر وقادرة منّا، ماديًا وروحيًا ومعنويًا وثقافيًا، أن يكون هو و هي رسول رحمة الله بالأفعال والمبادرات. وينتظر الله ذلك أكثر وأكثر من الكنيسة ومؤسساتها الراعوية والتربوية والاستشفائية والاجتماعية. نحن نعلم كم أن هذه المؤسسات قريبة من الشعب، ونعرف حجم مساعداتها للعائلات. لكن الفقر المتفاقم وغياب الطبقة المتوسطة يرهقانها، كما يرهقان الاهالي، ومع ذلك يقتضيان منها توسيع رقعة المساعدات، بالاتكال على جودة الله وعنايت
ه.
والله ينتظر ذلك أيضًا وخاصة من القيّمين على شؤون الدولة، على مقدراتها ومالها العام، وسائر إمكاناتها. ينتظر منهم أن يقوموا بواجب الضمير المبرّر لسلطتهم، وهو تأمين الخير العام وإنماؤه وتوسيع مساحاته الاقتصادية والمعيشية والاستشفائية والتربوية، من خلال ممارسة سليمة للسلطات التشريعية والإجرائية والإدارية.
7. لقد أبدى الجميع ارتياحهم لانعقاد المجلس النيابي في جلسة حصرت بالشأن المالي والنقدي ، لإنقاذ لبنان من خطر كان داهمًا على هذا الصعيد، واستوجبتها ضرورات وطنية توافقت عليها مختلف القوى السياسية والكتل النيابية. الى جانب قانون استعادة الجنسية. ولكن لا يمكن إهمال موضوع الدين العام الذي يتفاقم ويشكّل بدوره خطرًا على الاستقرار المالي. كما أنه لا يمكن عدم التحرك لمكافحة الفساد وهدر المال العام. ولا يسعنا إلاّ أن نحيّي بنوع خاص القوى السياسية المسيحية التي توافقت على عقد هذه الجلسة، مع الإصرار على المطلب الأول والأساسي وهو انتخاب رئيس للجمهورية، لكي يستعيد المجلس النيابي صلاحيته التشريعية وفقًا للدستور؛ ولكي تتمكن الحكومة من ممارسة مهامها وصلاحياتها الإجرائية. فتعود بالتالي الحركة الطبيعية إلى المؤسسات العامة، وتتوفّر إمكانية إجراء التعيينات اللازمة، ولاسيما في الوظائف الشاغرة.
8. إنّا ندعو القوى السياسية المسيحية، استكمالاً لما جرى، للعمل من أجل إزالة العقبات التي تحول دون انتخاب رئيس للجمهورية، وتسهيل ما يلزم من أجل الوصول إلى هذه الغاية في أسرع ما يمكن؛ ومن أجلالاتفاق مع القوى السياسية الحليفة على قانون جديد للانتخابات. يكون، كما وصفناه في “المذكرة الوطنية” وفق الميثاقية، بحيث يضمن المناصفة الفعلية، والاختيار الحرّ، والمساءلة والمحاسبة؛ ويُؤمّن التنافس الديمقراطي؛ ويلغي فرض نواب على طوائفهم بقوة تكتلات مذهبية (صفحة 23، عدد 23). ومعروف أنه عندما توّحد القيادات المسيحية رؤيتها ورأيها، يسهل اتخاذ القرارات الوطنية الكبرى.
في كل الأمور الوطنية، لا ينسى رجال السياسة أن كلمة الملاك لزكريا هي لهم أيضًا ولكل واحد منهم: لا تخف! لقد استجيبت صلاتك”. الوطن بحاجة إلى رجال دولة مؤمنين بالله، يصغون إلى نداء رحمة الله نحو شعبه، ويمارسون السلطة السياسية أفعال رحمة بمفهومها الواسع، أي في كل ما يؤمّن خدمة المواطنين في حاجاتهم. فمن أجلها وُجدت السلطات والوزارات والإدارات العامة على تنوّعها.
إننا نصلّي معًا إلى الله لكي يرسل لنا في الكنيسة والمجتمع والدولة مسؤولين يلتزمون بواجب الشهادة لرحمة الله تجاه جميع الناس، لمجده تعالى الآب والابن والروح القدس، الآن والى الأبد. آمين.