كثيراً ما نتساءل حول الأسباب التي أدت إلى تناقص أعداد الشباب الذين يعيشون جوهر الحياة والخبرة الروحية هذه الأيام، وبالتالي التراجع في عدد الدعوات الكهنوتية والرهبنية.
هذا التساؤل يحمل في طياته العديد من الإجابات ولكن على رأسها يكمن السبب الجوهري وهو الأزمة التربوية، لأن الإسهام في تربية الشباب تعني مساعدتهم على تنمية شخصيتهم وتحقيق أهدافهم فهي تنشئة شاملة للشخص وإدراك الحياة والعالم.
ولكن للأسف، العديد من الأهل غير مؤهلين وغير مدركين لمسؤوليتهم الكاملة، وبالتالي فهم لن يتمكنوا بهذه الحال من مساعدة أبنائهم على تحديد هويتهم أو مساعدتهم في فهم أعمق للحياة والعالم، فتكون النتيجة تشتت الأبناء وغرقهم في بحرٍ من الأسئلة التي تدور حول كيفية عيشهم وتواجدهم في هذه الحياة.
لا تنحصر الأزمة التربوية ضمن النطاق المهني فقط، فهي انعكاس لصورة المجتمع بالكامل الذي تؤثر وتتأثر به، وبالتالي تنعكس علينا جميعاً، دعونا في البداية نركز على الأزمات الأكثر تأثيراً والتي كانت وراء الأزمة التربوية، وأهمها أزمة المجتمع وأزمة العائلة.
عندما ننظر إلى المجتمع بين الماضي والحاضر نرى تغيراً جذرياً في القيم والمبادئ، حيث كان الإيمان فيما مضى يأتي دائماً في قمة التسلسل الهرمي للاهتمامات، بينما اليوم نعيش في مجتمع يرفض المسيحية الاكليريكية، وليس للإيمان في مجتمعنا أي دور يذكر، ولكلِ نمطٍ عواقبه، سواء أكان التركيز على الناحية الجسدية والتمتع في هذه الحياة، أو كان الخيار في عيش الحياة الروحية والعمل تبعاً للقيم، إنه الصراع الديني مع المتغيرات المعاصرة Values not Religion
الخطر هنا، يكمن في فقداننا للتعاطف مع الآخر، هذا التعاطف الذي يجعلنا نحترم مبادئ التعايش المشترك في مجتمعنا، نحن نواجه اليوم مجتمعاً خالياً من القيم، مجتمع مختلف، كل شيء مباح، كل شيء ممكن، هذا ما أسماه البابا بنديكتوس “الديكتاتورية النسبية”[1]“Dictatorship of relativism” ، وهو ما يستند إليه الكثير من الأهل في تربيتهم لأبنائهم فتُترك الحرية للطفل، حيث لا قواعد ولا حدود، اعتماداً منهم على مبدأ أن الحياة وتجاربها ستقوم بالمهمة في تربية أبنائهم، فيقف الطفل أو المراهق تحديداً وحيداً في مواجهة المجتمع وتجارب الحياة وتحدياتها، وهو ما عُرف تحت شعار “قوة الخيال” أو “قوة الارتجال”، من هنا فُقدت ليست القدرة على التربية فحسب وإنما الرغبة في التربية فقدت معها أيضاً.
في الواقع إحدى أهم المسؤوليات التي يُناط بها الأهل هي العمل على تقوية الإرادة لدى أبنائهم، بينما اليوم، لم يعد يرى الأهل -سواء الأب أو الأم- أن هذا الأمر يقع في نطاق مسؤوليتهم، فيقول حال لسانهم “الحياة تُعلم أبنائنا”.
وفي منظور أخر فالأهل الذين يقومون بالنقيض، ويتبعون الأنظمة والتعليمات بشكل صارم في تربية أبنائهم، أي السلطوية المفرطة على كل تحرك لأبنائهم، فيفرضون التربية على الطفل بمبدأ “صحن فارغ” “Empty Vessel” “تغذية الملعقة” ” “Spoon-feedليسوا أفضل حالاً، فهم بذلك يحدون من حريته الفكرية، فتكون النتيجة لهذا النوع من التربية، إما الطاعة بالإكراه ودون أي مناقشة، أو تكون ردة الفعل معاكسة لدى الطفل فيعلن التمرد نتيجةً لحالة اليأس التي وصل لها.
نقيضين من أساليب التربية والنتيجة واحدة، لا بدّ للتربية أن تعتمد على الحوار والمشاركة، فالتربية تقوم على معايير هدفها بناء شخصية الشاب ومساعدته على النجاح في المستقبل.
ساهمت أزمة المجتمع بشكل كبير في خلق أزمة العائلة، والسبب في هذه الأزمة أن العائلة فقدت في الفترة الأخيرة الانسجام الداخلي والخارجي، والمقصود بالانسجام الخارجي هوية الأسرة كمكانة تعمل من خلالها للوصول للإنسانية ولبناء مجتمع مسالم، أما الانسجام الداخلي فيعني مسؤولية الأهل في تأمين البيئة الملائمة لنمو الطفل بقوة وبشخصية ناضجة، فإذا فقدت العائلة هذا الانسجام الخارجي والداخلي، وخابت أمنيات الأهل، وإذا لم يستطيعوا تحقيق الأحلام، تكون نتيجة ذلك الإحباط وفقدان الثقة، لقد أصبحت القدرة على التغلب على هذه الإحباطات والعوائق نادرة، لذلك يزداد الخوف، الخوف من الذات، من الآخر، من المستقبل والخوف على الأبناء، والسبب تحديداً هو أن الفهم لحقيقة وأهمية مسؤوليات العائلة قد فُقدت، والأهم من ذلك فقدان الإيمان بأن كل شيء يمكن أن يعود إلى مساره الصحيح حتى وإن كنا نرى عكس ذلك بمشيئة الله وحدة.
إذن فأزمة المجتمع والعائلة ناجمة عن عدم إدراك الأهل لدورهم التربوي، فلم يعد الأهل على دراية بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم أو دورهم في تكوين هوية الطفل وفي نظرته للحياة والعالم بعقلانيه وإنسانية.
ليس بخافٍ على أحد أن أحد أسباب الأزمة لدى الشباب أيضاً تكمن في عدم وجود نموذج حي يحتذون أو يتشبهون به، بدايةً من الأهل، المربين، المعلم أو رجل الدين، فهم لا يمتلكون شيئاً يجذب الشباب حتى يقتدوا به سواء في شخصيتهم أو ما يسمى الجاذبية، والأهم من ذلك يفتقدون إلى السلطة[2] وهي النقطة الأهم في عملية التواصل وبالتالي في الأزمة التربوية، العديد من الأهل لا يثقون بأنهم يمتلكون السلطة، وهذا بالتأكيد ينعكس سلباً في تقبل الطفل لهذا الشخص كنموذج يحتذي به، أو حتى كشخص يتعلم منه فالطفل لا يتعلم من شخص لا يتمتع بهذه السلطة، بمعنى أخر، حتى نخرج من الأزمة التربوية علينا أن نستعيد هذه السلطة، علينا أن نؤمن بها من جديد، ونؤمن بأن السلطة هي القدرة على الخدمة بمحبة.
يقول القديس يوحنا بوسكو: “هدف التربية تكوين مواطن صادق ومسيحي حقيقي وجيد“ وهو مبدأ أساسه العودة للسلطة الأبوية من خلال: المسامحة، الصبر والتربية على السلام الداخلي والخارجي.
إن أعظم إنجاز للأهل هو حقيقة عدم تخليهم عن الطفل مهما كانت الظروف، حتى عندما تصبح الثقة بهم ضعيفة، في البداية والنهاية المسؤولية العظمى في التربية تقع على عاتق الأهل، ولذلك فالتعاون مع البيت الثاني للطفل وهو المدرسة[3] أساسي، فيعملان معاً -البيت والمدرسة- لتحقيق هدفهم المشترك وهو مساعدة الطفل في إيجاد هويته والتطوير الأمثل لقدراته ومهاراته. فالأهل بحاجة إلى التحلي بفضيلة المغفرة والصبر والسلام الداخلي.
وبما أن القيادة فن، فإن التنشئة كشكل من أشكالها تُعد أيضاً فن، ما يعني أن الأبناء والأهل يتطورون، يتعلمون ويدعمون بعضهم البعض، في العائلة لا يوجد متفوق كما لا يوجد أقل منه قيمة، الجميع يساهم، كبيراً وصغيراً في عملية التعلم، الابن الأصغر كالأب والأم الجميع سواسية، لذلك ندرك أن التعليم هو عملية خلاقة، لقاء بين أشخاص مبدعين، وهذه العملية يكون حليفها النجاح إذا قامت على احترام حرية وكرامة الآخر، وهنا تستحضرنا حادثة عن فنان صيني يرسم اللوحة ولكنه يترك حيزاً فارغاً فيها وعندما سُئل عن سبب ذلك، أجاب لأنني أترك مخيلة الآخر ليشارك معي ويكمل اللوحة، هكذا هي تربية الأبناء نترك لهم حيزاً من الحرية للتفكير والإبداع، نمد لهم يد العون ببعض الأفكار إذا كانوا بحاجتها، ونتركهم يأخذون القرار الشخصي والخيار الفردي، فالمشاركة في الرسالة هي السر في نجاح العملية التربوية.
أخيراً، إن عملية تربية الأطفال من أصعب المهام التي قد يقوم الشخص بها يوماً، فالأبوة أو الأمومة عملية نشطة ومستمرة، تتطلب استخدام جميع المهارات والخطط والمعرفة، عملية تنطوي على سلسلة من التفاعلات بين الأهل والطفل، بحيث يعتمد الطفل على الأهل فيتوفير الدعم العقلي، العاطفي والإرشادي له، هي عملية أساسها المحبة والاهتمام، فكن مؤمناً واثقاً بسلطتك الأبوية وساعد طفلك في بناء وتطوير السلوكيات الايجابية لديه، ولنعمل معاً لتخطي هذه الأزمة التربوية. وهذا يتطلب نضوج بيئي (عقلي، ووجداني وحياتي) أي التفكير بالعقل والقلب ورؤية واقع الحياة وتحدياتها.
يقول البابا فرنسيس في “ليكن مسبحاً”: “على الكثير من الأمور أن تعيد توجيه مسارها، ولكن، قبل كل شيء، البشرية هي التي بحاجة للتغيير. هناك نقص في الوعي بالأصل المشترك، وبالانتماء المتبادل، وبمستقبل يتشارك به الجميع. هذا الوعي الأساسي هو الذي سيسمح بتطوير قناعات جديدة ومواقف جديدة وأنماط حياة. وهكذا ينبري تحدٍّ كبيرٍ ثقافي، وروحي، وتربوي، يقتضي مراحل طويلة من التجدّد”.
تلخيص عن كتاب:
Sister Enrica Rosanna (2013) Believing in Your Own Authority. How we canovercome the Educational Crisis. IN: The Art of Leadership. Edited by: Notker Wolf, Enrica Rosanna. Liturgical Press. Collegeville, Millesota. PP 110- 117.
[1] أن يكون عند المرء إيماناً واضحاً حسب ما تعلّمه الكنيسة، يُصنِّفه عالم اليوم في خانة الأصوليَّة، فيما النسبيَّة، أي السير حسب ما تمليه رياح العقائد المغلوطة يميناً ويساراً، تظهر وكأنَّها تصرَّفاً حكيمًا على مستوى متطلِّبات زماننا الحاضر. إن مقياسنا الوحيد كمؤمنين هو السيد المسيح، الإنسان الحقيقي. هو وحده مقياس الإنسانيّة. فالإيمان الناضج ليس اتباع آخر موضة عصرية، إنما هو الصداقة العميقة المتجذِّرة بالمسيح.
[2]سلطة بالأصل اللاتيني”augere,” تعني النمو والنضوج من خلال المشاهدة.
[3]” “schoolتعني مكان نمو الشخصية واللعب ومواجهة الصعوبات والعراقيل.