Father Najib Baaklini

الحبّ الزوجيّ على ضوء "فرح الحبّ" (1)

أراد الإرشاد “فرح الحبّ” أن يذكّر ببعض الأسس والثوابت لنجاح الحياة الزوجيّة والعائليّة وذلك بطريقة عمليّة وواقعيّة، بإعطائه بعض الإرشادات والنصائح والتوجيهات. لقد حدّد النمط المطلوب والأسلوب الأفضل للمتطلّبات الأوّلية والأساسيّة والجوهريّة لتحقيق الحبّ الزوجيّ من خلال “فرح الحبّ”

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

1. عنوان أم شعار؟!
عنوان هذا المقال يبدأ بكلمة الحبّ وينتهي بها. وبفعل تلك الكلمة أوجَدَ الله الإنسان، فجبله بحبّ، وأعطاه الحياة واضعًا حدًّا لوجوده في العدم. هذا الحبّ الإلهي جسّده يسوع المسيح بتضحيته وموته من أجل خلاص البشر. فالحبّ زَرْعةُ الله في قلب الشريك ليتشارك فيه مع نصفه الآخر. وهذا الحبّ النابع من الله، اكتسبه الإنسان بفضل إرادته وتجاوبه مع عطايا الله ونعمه وحسن تدبير الخالق لمخلوقاته. “وقال الله:”لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا ]…[ فخلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه ذكرًا وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم: “إنموا واكثروا…” (تك 1: 26-28). فالحبّ هو نموّ وقوّة فاعلة وخلاّقة، تجعل من الزواج واحة حياة ومساحة تفاعليّة وشراكة حقيقيّة. مَنَحَ الله الإنسان القدرة على الحبّ ونقله، كما القدرة على الخلق والإبداع. فالخلق مصدره الحبّ ويتمّ بواسطته ومن أجله. هل أصبح الحبّ في عصرنا عنوانًا أم شعارًا؟ وهل الوهم أصبح عنوانًا للحبّ والحياة الزوجيّة وهيكليّة لسماتهما، أم أنّ الحياة الزوجيّة والحبّ نفسهما باتا مكانًا للوهم أو وهمًا متواصل الفصول والصور والحلقات؟ كثيرة هي الأسئلة، والأجوبة لا تأتي دائمًا مُقنعة ولا حتّى الحلول الواقعيّة تحدّ من المنازعات والحزن والألم.
إنّ عيش الحبّ الزوجيّ وممارسته اليوميّة، وما يحمل من انتكاسات وصعوبات جمّة يبقى مصدر فرح وحياة. من هنا كان اختيارنا لهذا الموضوع لنؤكّد بأنّه بالرغم من كلّ شيء، يبقى الحبّ الزوجيّ حالة مميّزة من الجمال والبهجة والطمأنينة، إذا عرف الثنائي ماهيّة عيشه بالطرق الصحيحة والإيجابيّة، ومن هنا أتى الإرشاد الرسوليّ “فرح الحبّ”، وقدّم نظرة إيجابيّة عن الحبّ الزوجيّ والعائلة، الذي هو محور تلك الوثيقة حيث يشدّد على نشر الحبّ الصلب والراسخ والرحوم وعلى أن لا يستثني أحدًا على الإطلاق. تحاول هذه الوثيقة الإجابة على كلّ الاحتياجات والتطلّعات الرئيسة في مجال راعويّة الزواج والعائلة على الصعيد الكنسيّ والاجتماعيّ. زِد على ذلك بأنّها “رسالة فاعلة” تترجم من خلال العائلات نفسها وشهادتها لفرح الحبّ. كما تحدّثت مطوّلاً عن الرحمة التي هي فضيلة أسمى من العدالة. ولكن لا رحمة حقيقيّة منفصلة عن الحقيقة.
نعم أراد الإرشاد “فرح الحبّ” أن يذكّر ببعض الأسس والثوابت لنجاح الحياة الزوجيّة والعائليّة وذلك بطريقة عمليّة وواقعيّة، بإعطائه بعض الإرشادات والنصائح والتوجيهات. لقد حدّد النمط المطلوب والأسلوب الأفضل للمتطلّبات الأوّلية والأساسيّة والجوهريّة لتحقيق الحبّ الزوجيّ من خلال “فرح الحبّ”.
إنّ الإرشاد الرسوليّ “فرح الحب” استوعب بعض التحدّيات والصعوبات التي تعترض عيش الحبّ بطريقة ناجحة ومثمرة. من هنا تناول بعض النقاط الحسّاسة في قضية الحبّ من أجل تقديم المبادئ على حقيقتها والمفاهيم السليمة، كي لا يقع الشركاء في فخ الوهم و”المغالطات” والالتباس؛ ولا يكونوا فريسة الثقافة “الحياتيّة” التي تبتعد عن تعاليم الله. فالإرشاد وضّح بأنّ الحبّ ليس شعارًا وإنّما هو عنوان للحياة المشتركة، قابل للتحقيق. فبالمطلق الحبّ بين الرجل والمرأة هدفه وغايته وسببه الزواج والعائلة. “فالزواج أمام الله التزام مقدّس وهبة إلهيّة… ]…[ يهتم الربّ بسعادة الزوجين ويدلُّهما على الطريق الذي يوصل إليه وإلى الكنيسة وإلى القريب ]…[ الزواج أمام الله هو تلقيّ نِعَم الله وهباته بهدف بناء وحدة عائليّة”.[1]
أخيرًا الحبّ حالة يعيشها الإنسان بحسب المعطيات والظروف وإلى آخره، ولكن تبقى حالة “حياة جميلة” و”فرح دائم” و”سعادة ممكنة”.
2. “فرح الحبّ ” يذكّر ويُعلن
صدر الإرشاد الرسوليّ حول العائلة من قبل البابا فرنسيس بعنوان “فرح الحبّ”. وقد خَصَّصَ الإرشاد أو الدستور الراعويّ مساحة كبيرة ومهمّة لفضيلة الحبّ في الفصل الرابع تحت عنوان “الحبّ في الزواج” كما في الفصل التاسع يتطرّق إلى “الروحانيّة الزوجيّة والعائليّة”.
من ضمن النقاط التي أثارها الإرشاد وبشكل متكرّر هي: مبادئ الحبّ وأهميّته وفاعليّته وضرورته في نجاح الزواج. فالتركيز على هذا الموضوع له دلالات كثيرة ومهمّة. تتمحور قراءة الإرشاد حول الحبّ في الزواج والعائلة، من هنا أتى عنوان الإرشاد الرسوليّ حول العائلة بعنوان “فرح الحبّ”.
وبما أنّ البعض لا يُدرك مفاهيم الحبّ والزواج على حقيقتهما، ولا مبادئهما وأهدافهما، ولا يسعى إلى تحقيق ما رسمه الله للبشريّة من خلال ابنه، أي التعاليم السماويّة حول فضيلة الحبّ وسرّ الزواج المقدّس، أتى الإرشاد الرسوليّ ليذّكر ويشرح ويوضّح مفاهيم الحبّ وليحثّ الناس للعودة إلى أصول الحبّ وعيشه كما ينبغي. زِد على ذلك التشديد على السعيّ لإدراك قيمة الحبّ على حقيقته من خلال التمسّك بجوهره ومضمونه وتأثيراته الإيجابيّة على حياة الناس. فالحبّ يجمع البشر حول “قضايا” مهمّة وأساسيّة ووجوديّة، من خلال الإعجاب والشعور والعاطفة والرغبة وإلى آخره. فهو قوّة فاعلة في استمراريّة الحياة وتفاعلها. “إنّها صيرورة الإنسان حيث يبني كيانه ويثبت وجوده عبر حالة حياتيّة ووجوديّة مثمرة مع استمرار تلك الحياة وذاك الوجود ومعايشة القيم والمبادئ الإنسانيّة. وهكذا يحقّق الإنسان غاية وجوده على الأرض بمساعدة وسائل سليمة وطرق إيجابيّة لبلوغ الحبّ الذي هو غاية الوجود”.[2]
نعم إنّ هذا الحبّ “النعمة” والعطية من الله، لا بدّ أن يُستثمر مع الآخر المحبوب الذي يؤكّد بأنّ لا حبّ دون شريك. فالحبّ المتبادل والصلب يُعطي حالة من البهجة والفرح والسعادة “فصيرورة الإنسان تحتاج إلى مُبدع ألا وهو الآخر؛ حيث يمضي المحبّ والمحبوب نحو الأحسن بفضل حبّهما، فيقضيان بعلاقتهما المميّزة على العزلة والغربة والفراغ، ويخلقان بانسجامهما مناخًا مؤاتيًا لاعتناق سعادة “ممكنة” و”معقولة”.[3]
لا ينفك الإرشاد الرسوليّ بالتطرّق والتحدّث عن الحبّ وكيفيّة معايشته من خلال علامات واضحة إذ يشدّد على ضرورة وأهميّة إدراك مفهوم الحبّ ومبادئه لأنّه يجلب السعاة والفرح “…والحبّ ليس الاتّحاد بالآخر فقط، أو الشعور بالنشوة والرغبة في الاستمرار، وإنّما هو تحوّل الشريكين إلى واحد في المعاناة والفرح، أي إمكانية التفاهم على معظم المواضيع والمعضلات التي تعترض حياتهما. إنّ الفرح بالحبّ لا يوازيه أيّ فرح، فهو يفوق كلّ مقاييس الهناء. فالشريكان عندما يلتقيان معًا في بوتقة الهوى الصادق، يحقّقان السعادة التي يأملان معها دوام الاستمراريّة المبتغاة”.[4] ففي الفصل الرابع من الإرشاد الرسوليّ الذي يحمل عنوان “الحبّ في الزواج” تأكيد واضح على مبادئ بأنّ لا زواج من دون حبّ؛ فهو يدعم الزواج ويثبّته ويستمرّ حتّى الموت. “يُطبّق البابا فرنسيس على الحياة العائليّة ميزات المحبّة التي يستعملها بولس الرسول، ويشرح أنّ هذا هو الحبّ الذي يوحّد السعي من أجل خير الآخر والمبادلة والحنان والاستقرار بعدم انحلال السرّ المميّز، فالزواج هو عمليّة ديناميكيّة تتقدّم بدرجات مع إدماج تدريجيّ لعطايا الله”.[5] يقول الإرشاد في العدد 89 “إنّ نعمة سرّ الزواج تهدف قبل كلّ شيء إلى “رفع الحبّ بين الزوجين إلى درجة الكمال”. هذا يدلّنا على أنّ يسوع المسيح يستقبل ويأخذ حبّ الزوجين على عاتقه ليجعله مقدّسًا بحضوره وبركته وعطاياه؛ “يحيلُ (يرجع) سرّ الزواج إلى الآب الخالق وإلى المسيح، ويجد معناه الكامل في يسوع المسيح والمخلّص الفادي”[6]؛ وهذا دلالة على ضمان الحبّ الإلهيّ للحبّ الزوجيّ الحقيقيّ. “… يجعل الله الحبّ الإنسانيّ ممكنًا عبر إدخال منحى آخر إليه، فهو الحبّ المستوحى من نبع غير مرئي، خلاّق، وقدسيّ. إنّ الزوجين عندما يعطيان بعضهما لبعض عبر تبادل الرضى، يستقبلان الهبة نفسها، إنّه هذا الحبّ الإلهيّ وهو روح الله التي من خلالها عاش حياته الإنسانيّة. إنّ سرّ الزواج هو هبة يقدّمها الله للزوجين حتى يعيشا تحت رعاية الحبّ طوال عمرهما. ويعمل سرّ الزواج على طبيعة الرابط الخاص بحياة الزوجين المشتركة. وهي نعمة حقيقيّة تزداد كمالاً عبر محبّة الزوجين المستمدّة قوّتها من هذا الرابط غير القابل للفسخ… ]…[، فالنعمة الأسراريّة باعتبارها مشروعًا إلهيًّا ضروريّة للرجل والمرأة اللذين قرّرا أن يعيشا دعوتهما… ]…[ ففي الزواج المسيحيّ تكون السعادة على صورة المسيح، وتجعل الكنيسة كلّ طرف ينسى نفسه ويبحث بكلّ الطرق عن خير الآخر”.[7]
يشدّد البابا ” لا يمكننا أن نشجّع مسيرةً من الأمانة ومن العطاء المتبادل، إن لم نحفّز نموّ وتوطيد وتعميق الحبّ الزوجيّ والعائليّ” (عدد 89). من هنا تأتي أهميّة تنمية المحبّة في حياة الثنائي من خلال التحلّي بالصبر وممارسة الرفق وعدم الحسد ونبذ الكبرياء ورفض التشنج والحدّ من التباهي وإلى آخره. كما من خلال اللطف والوداعة والتجدّد والغفران والرحمة وعيش الفرح والبهجة. زِد على ذلك الإيمان بالآخر المُعبّر عنه بالثقة والصدق والصبر والتحمّل. كلّ هذه المؤهلات والصفات والمعايير ذكرها البابا في إرشاده ليؤكّد بأنّ الحبّ لا يقوم فقط على الشغف والمشاعر بل أيضًا على مزايا المحبّة والحبّ، لا سيّما الاحترام والصراحة والثقة والمسامحة. ويضيف قداسته ويقول “الحبّ الزوجيّ، بعد الحبّ الذي يجمعنا بالله، هو “الصداقة الأعظم”، إنّه إتّحاد يتجلّى بجميع ميزات الصداقة الجيّدة: السعي لخير الآخر، الألفة، الحنان، الاستقرار…” (عدد 123)، ويزيد على ذلك فيقول “من الجيّد أن نعتني بفرح الحبّ في الزواج” (عدد 126) أي الحبّ عنوانه الفرح وعندما يعيش الثنائي الفرح يكون في الحبّ وكذلك عندما يحبّ يسامح وعندما يسامح يكون في الحبّ. إنّها معادلة تعبّر عن طبيعة الحبّ والفرح معًا.
[1] نجيب بعقليني، الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة في لبنان، مكتب راعويّة الزواج والعائلة، الدائرة البطريركيّة المارونيّة، بكركي- لبنان، 2014، ص 138
[2]كلوديا أبي نادر ونجيب بعقليني، لقاء وعهد، الجامعة الأنطونيّة، لبنان، 2008، ص 32
[3] المرجع السابق، ص 32
[4] المرجع السابق، ص 35
[5] مداخلة للكاردينال لورينزو بالديسيري خلال تقديم الإرشاد الرسوليّ “فرح الحبّ”، الفاتيكان، روما، 8 نياسن 2016.
[6] نجيب بعقليني، الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة في لبنان، مكتب راعويّة الزواج والعائلة، الدائرة البطريركيّة المارونيّة، بكركي- لبنان، 2014، ص 212
[7] المرجع السابق، ص 107

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

الأب د. نجيب بعقليني

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير