تعاقب الباباوات الأخيرون على كرسي بطرس وكل واحد منهم أولى اهتمامًا خاصًا لموضوع الذاكرة. فبالنسبة إلى يوحنا بولس الثاني، شفاء الذكريات كان شغفه المميز ببساطة لأنه ترعرع في ظلّ أوشفيتز مختبرًا الخوف الذي كان يسيطر على بولندا الممارَس من قبل النازيين والسوفيات. وكابن فخور ببولندا، كان يوحنا بولس الثاني جدّ متعلّق بذكرى الشعب بأسره من شعراء وكتّاب وقديسين وصوفيين ومعارك كثيرة وخطابات وكل الشخصيات ونقاط التحوّل التي تورّد موادًا خامًا للثقافة الوطنية. شجّع العالم حتى يكون متعلّقًا بذكرياته.
أما البابا بندكتس السادس عشر فتأخذ الذكرى منحىً مختلفًا لديه وكم من المرّات حذّر أوروبا على مدى السنين من مغبّة الانفصال عن ماضيها أي عن هويتها المسيحية وتراثها الفلسفي والثقافي فأصبحت على المحكّ. ونصل اليوم ومع نهاية هذا الأسبوع التي أمضاها في القوقاز إلى البابا فرنسيس الذي لم يكفّ عن تشجيع المؤمنين منذ لحظة وصوله ليعتزّوا “بذكرياتهم كشعب” باعتبارها خدمة للأمة وحصنًا يحمي الإيمان المسيحي.
تناول البابا فرنسيس موضوع الذاكرة عند لقائه مع الكهنة والرهبان والراهبات والإكليريكيين يوم السبت فضلاً عن مشاركة ممثلين عن العلمانيين والشبيبة. لم يحضّر البابا فرنسيس أي نص لهذا اللقاء إنما أصغى إلى الأسئلة الأربعة التي وُجّهت إليه. فسأله كاهن من الأرمن الكاثوليك الذي ركّز على أهمية الاعتزاز “بذكريات الماضي” فقصّ عليه البابا فرنسيس قصة حصلت معه في أثناء رحلته إلى أرمينيا في حزيران.
“عند ختام القداس، سألت أسقفًا كاثوليكيًا أن يصعد إلى السيارة البابوية معي وطلب من الأسقف الأرثوذكسي أن يأتي أيضًا معنا فكنا نحن الثلاثة في السيارة البابوية نقوم بجولة معًا…” وقال مازحًا: “كنا أشبه بسلطة الفاكهة!” ثم وصف البابا كيف التقى بامرأة عجوز عند نزوله من السيارة البابوية وكانت تحدّق إليه فسلّم عليها وقالت له المرأة بإنها أتت من جورجيا وأمضت ثماني ساعات في الباص حتى تأتي لتراه. ثم في اليوم التالي رأى المرأة نفسها مرة أخرى فسألها: “لقد أتيت من جديد؟” وأجابت: “نعم بداعي الإيمان!”. وقال البابا: “أنظروا إلى مثال هذه المرأة! لقد آمنت بيسوع المسيح الذي ترك بطرس على الأرض وأرادت أن ترى بطرس… هذه المرأة المتواضعة أمضت ثماني ساعات في الباص لتأتي وترى بطرس! هذا ما يجعل من الذكرى حية. علينا أن نمرّ بالتاريخ الوطني من أجل نقل شيء ما أفضل إلى المستقبل”.
بعبارات أخرى، ما يحاول أن يشدد عليه البابا فرنسيس هو أنّ “ذكرى الشعب ليست فكرة مجرّدة بل هي تتألّف من ذكريات محددة واختبارات قام بها كل فرد ومن هنا “إبقاء الماضي حيًا هو جزء كبير من الإصغاء إلى القصص واحترام الحكمة”.
من هنا وشدد على أهمية الكبار في السنّ مطلقًا نداء إلى الشبيبة حتى ينمّوا روابط وثيقة مع أجدادهم وركّز على أهمية “الأمهات والجدات” اللواتي يحملن الذكرى والثقافة. وختم: “إنّ النبتة من دون جذور لا تنمو أبدًا والأمر سيان مع الإيمان إن لم يكن له جذور فلن ينمو أبدً!”