- الفردوس الضائع
إنّه لَمِن الصعب، لا بل من الأمور المعقّدة نوعًا ما، تناول المواضيع الخاصة، بما يتعلّق بالكائنات الحيّة، خلائق الله، لا سيّما الجنس البشريّ؛ لا بل إنّه لَمِن الأصعب سبر أغوار خليقة الله العظمى والأحب على قلبه: الإنسان. الإنسان من أعظم وأروع ما صنعه الله في هذا الكون. قال الله “لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا ]…[ فخلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه ذكرًا وأنثى خلقهم” (تك 1: 26-27). هل أدرك الإنسان هذه الحقيقة وهذا الواقع؟ تلك النعمة والعطيّة؟ أم أنّه غارقٌ في “سُباتٍ” عميق؟ وأضاع فرصة الخلاص؟
خُلِقَ الإنسان لكي يعيش في الفردوس. أعطاه الخالق كلّ الإمكانات ووهبه العطايا، لكي يتنعم في الفردوس. سلّطه على الخليقة “وليتسلّط على أسماك البحر، ]…[ وجميع الحيوانات التي تدبّ على الأرض” (تك 1: 26). إنّ مشروع الخالق للإنسان هو مشروع خلاص وحياة، لا يعرف الموت الروحيّ والفناء؛ لكن الإنسان بجهله وتسلّطه ورفضه لإنسانيته، رفض حقيقته، وتمرّد على الخالق. “وغرس الربّ الإله جنّةً في عدن شرقًا وجعل هناك الإنسان الذي جبله ]…[ وأخذ الربّ الإله الإنسان وجعله في جنّة عدنٍ ليفلحها ويحرسها. ]…[ وأمّا شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها، فإنّك يوم تأكل منها تموت موتًا” (تك 2: 8-17). وتُخبرنا رواية خلق العالم في سفر التكوين، كيف أنّ الخالق عمل بجهدٍ وتأنٍّ وإبداع ومحبّة كاملة من أجل راحة الإنسان، مخلوقه الأحبّ والمفضّل على جميع خلائقه. إلاّ أنّ الإنسان الأوّل، آدم وحواء، وقع في التجربة والمعصية، فخرج من الفردوس الذي لم يستحقه بسبب خطيئته. “فسمعا وقعَ خُطَى الربّ الإله وهو يتمشَّى في الجنّة ]…[ قالَ “إنّي سمعتُ وقعَ خطاكَ في الجنّةِ فخفتُ لأنّي عُريان فاختبأتُ”، ]…[ وقالَ الربُّ الإله “هوذا الإنسانُ قد صارَ كواحدٍ منَّا، فيعرفُ الخيرَ والشرَّ”، ]…[ فأخرَجَهُ الربُّ الإله من جنّةِ عدن ليحرثَ الأرضَ التي أُخِذَ منها. فطُردَ الإنسانُ وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ” (تك 3: 8-24). “الإنسان الأوّل لم يُخلق صالحًا وحسب، ولكنّه أُقيم في صداقة مع خالقه، وفي تناغمٍ مع ذاته ومع الخليقة التي حوله والتي لا يفوقها إلاّ مجدُ الخليقة الجديدة في المسيح.”[1] فالفردوس هو المشاركة مع الله.
إنّ فكرة أو حالة “الحنين للفردوس، رغبة من الإنسان ألاّ يكون إنسانًا”، تدعونا إلى التحدّث عن الإنسان المسيحيّ المؤمن والممارس لإيمانه، وعن علاقته بالفردوس. لن ندخل في توصيف الفردوس وما يحوي، إنّما نودُّ التركيز على الحالة التي يعيش ويطمح من أجلها الإنسان أو يحنّ إليها. “السماء هي غاية الإنسان القصوى وتحقيق أعمق رغباته، وحالة السعادة الفائقة والنهائيّة.”[2]
تبتعد كلمة “باراديسوس” اليونانيّة عن كلمة “بارديس” الفارسيّة التي تعني الحديقة. استخدم كتاب الترجمة السبعينيّة (لكتاب المقدّس)، هذا المصطلح في بعض الأحيان بمعناه الحرفيّ، وفي أحيانٍ أخرى وفقًا للمعنى الدينيّ والروحيّ الذي نعتمده وحده في هذا السياق.
ألا نعتقد أنّ الفردوس الضائع، أي بعد طرد وخروج آدم منه بسبب خطيئته، عزّز العلاقة بين الله والإنسان أكثر ممّا كانت قبل الخروج من الفردوس؟
- الفردوس المُرتجى
إنّ الفردوس “المُستعاد” أو المُرتجى هو واقع إسكاتولوجيّ (أخيريٌّ: ما يتعلّق بالآخرة). أعاد الله بحكمته للإنسان طعم الفرح الفردوسيّ والسماويّ. يعطي الكتاب المقدّس، (العهد الجديد) السرّ الأخير لهذا التدبير والمخطّط الإلهيّ. “إنّ سرّ الشركة السعيدة هذا مع الله ]…[، والكتاب المقدّس يكلّمنا عليه في صور: الحياة، النور، وليمة العرس، … الملكوت، بيت الآب، أورشليم السماويّة، الفردوس: “ما لم ترَه عين، ولا سمعت به أُذن، ولا خطرَ على قلب بشر، ما أعدّه للذين يحبّونه” (1 كور 2: 9).[3] فالمسيح هو مصدر الحكمة، لا بل هو الحكمة بحدّ ذاتها، كذلك هو آدم الجديد؛ الذي منه تصل الإنسانيّة إلى حالتها الإسكاتولوجيّة. المسيح هو الوسيط الذي أتى من عند الآب. فهو طريق الخلاص الذي يقود إلى الفردوس. لقد سفك دمه على الصليب، من أجل الخطأة، لا سيّما من أجل كلّ مَن يتوب عن خطيئته ويؤمن به. “ونحن عاينّا ونشهد أنّ الآب أرسل إبنه مُخلّصًا للعالم” (1 يو 4: 14)، “لتعلموا أنّ الحياة الأبديّة لكم أنتم الذين يؤمنون باسم إبن الله” (1 يو 5: 13). لقد أظهرت عجائب المسيح أنّه يمكن أخيرًا التغلّب على المرض والموت. فالإنسان الذي يؤمن به يجد “قوت الحياة” و”الحياة الأبديّة” أي عطايا الفردوس الإسكاتولوجيّة (الأخيريّة) التي دُشِّنَت وأصبحت مفتوحة منذ الآن. “… فإنّ الأخيريّة هي حاضرة منذ الآن في العالم، أو أنّ عالمنا هو منذ الآن في الأخيريّة. لكنّ هذه الأخيريّة الحاضرة تنزع إلى أن تتمّ. وبهذا المعنى، فإنّ الأخيريّة ليست حقيقة وحاضرة حتّى الآن. فعبارة “منذ الآن” تدلّ على باكورة ما يجب أن يكون، كما في حبّة القمح والسنبل، أو كالشروع في ما سيكون الاكتمال.”[4]
في نصوص الكتاب المقدّس، يبقى وصف الفردوس الإسكاتولوجيّ قائمًا ويُصار إلى تنقيته تدريجيًّا. قبل العودة في نهاية الأزمنة إلى “الأرض المقدّسة”، يُعدّ (يُستخدم) الفردوس مرتبة وسطى حيث يجمع الله الصالحين بانتظار يوم الدين، والقيامة والحياة في العالم الآخر. هكذا كان وعد المسيح للصّ الصالح، الذي تحوّل مع وجود وحضور، ذلك الذي هو الحياة، إذ قال له “اليوم تكون معي…” أمّا بالنسبة لحالة النعيم، التي تأكّدت مع التاريخ المقدّس، كان يسوع أوّل الداخلين إلى الفردوس بعد موته، لكي يفسح المجال للمذنبين بالتكفير عن أنفسهم، الذين اشتراهم بدمه المُهرق على الصليب. “إنّ يسوع المسيح، بموته وقيامته، قد فتح لنا السماء.” “]…[ السماء هي الجماعة السعيدة المكوّنة من جميع الذين انضمّوا إليه إنضمامًا كاملاً”[5]
عند استعادة موضوع الفردوس في العهد الجديد (الإنجيل)، يبدو مهمًّا تأكيد الطبيعة المتمحورة حول المسيح. إنطلاقًا من صورة واضحة حيّة للغاية، يحوّل كتّاب النصوص المقدّسة، نظر قارئيها من العروض (الصوّر) الماديّة للغاية التي يتباهى بها الدُعاة، إلى الألفية الجديدة.[6] فَهُم يعلّمون كيف يكتشف الإنسان أنّه بوجود وحضور المسيح، يجد سعادة كبيرة؛ ولكي يدخل ويأكل من شجرة الحياة، لا وسيلة أخرى سوى طريق الفصح. غير أنّ موضوع الفردوس المحدّد، لا يفقد قيمته بالرغم من ذلك. ففي أسطورة العصر الذهبيّ بدا طموح الإنسان لحياة هادئة في عالم مضياف. يُعطي الكتاب المقدّس، أجوبة مقنعة ويقينيّة، بالنسبة إلى الحنين للفردوس الضائع. إنّ الله الآب يحضّر السماوات الجيدة والأرض الجديدة الموعودة. “ورأيتُ سماءً جديدة وأرضًا جديدة، لأنّ السماء الأولى والأرض قد زالتا، وللبحر لم يبقى وجود. ورأيت المدينة المقدّسة، أورشليم الجديدة ]…[ هوذا مسكنُ الله مع الناس، فيسكن معهم وهم سيكونون شعوبه وهو سيكون “الله معهم” ” (رؤيا 21: 1-3). انجذبت الطبيعة البشريّة في تيّار الفساد والانحلال، مع خطيئة آدم وسقوطه، فكان مصيرها الموت. مع سقوط الإنسان الأوّل، اضطرّبت السماء والأرض، فتبدّلتا، وما عادتا كما كانتا من قبل. أمّا الآن، فستتغيّران أيضًا، لتصيرا “سماءً جديدة وأرضًا جديدة”. فالسماء الجديدة (أي مدينة الله) والأرض الجديدة (أي أورشليم السماويّة)، وحضور الله يتغيّرون. هل ما زالت عيون الإنسان الداخليّة (بصيرته) مُغلقة ولا تستطيع أو لا تريد أن تفهم حاليًّا هذا السرّ؟ لقد فتح الله الفردوس ووضع الإنسان بداخله، كما فعل مع آدم. بحضور الله ووجوده، سوف يحيا الإنسان في سلام في عالمٍ متجلّي. يعبّر القدّيس بولس، بكلماتٍ أخرى، عن هذا التوقّع (الانتظار) (فليبي 3: 2).
عندما يفتح الإنسان بصيرته من خلال الإيمان، يُدرك أنّه دخل في حالة روحيّة يعيشها مع الله، لأنّ “السماء الجديدة والأرض الجديدة” دخلا في حالة من التحوّل. وهذا التحوّل يصير ويتمّ بصورة نهائيّة في حالته الإسكاتولوجيّة. علاقة الله مع الإنسان ومع السماء والأرض، ستأخذ الآن، ومن هنا، ميزة روحيّة أَخيريَّة، لأنّ الذي كان قبلاً ما عاد الآن موجودًا. كلّ هذا يؤكّد على أنّ حضور الله يتجدّد، لأنّه مُقيم مع الإنسان، بالرغم من معصيته، وضعفه، ونكرانه لحقيقة الله وقدرته الجبّارة القادرة على التجدّد والتحويل.
إنّ هذا التجدّد يدفع نحو الكمال، من خلال قدرة الله وحبّه اللامتناهي، الذي يجدّد العالم، منذ الآن وصاعدًا، تجديدًا عميقًا وقويًّا وراسخًا. إنّ حضور الروح الإلهيّ في العالم ما هو سوى الفردوس مهما عصفت به الأحداث والآلام، فالسماء والأرض كوكب واحد، والله يملأها معًا. “أمّا، نحن، فوطننا في السماء ومنها ننتظر شوق مجيء مخلّصنا الربّ يسوع المسيح” (فليبي 3: 20). من هذا المنطلق تأخذ جهود التحوّل في عالمنا هذا، كُلّ معناها وفقًا لعقيدة المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ “غير أنّ انتظار الأرض الجديدة بدلاً من أن يخفّف من اهتمامنا باستثمار هذه الأرض، يجب بالأحرى أن يوقظها فينا: فجسم العائلة الإنسانيّة الجديدة ينمو فيها، راسمًا الخطوط الأولى للعالم الآتي”.[7]
وبما أنّ الفردوس هو “مكان” إقامة الله، لذلك هو خارج هذا العالم. غير أنّ لغة الكتاب المقدّس تحدّد أيضًا البيت الإلهيّ في السماء. بالتالي يُعرَّف الفردوس في بعض الأحيان بعبارة ” أعلى السماوات”، المكان الذي يُقيم فيه الله. فقد اختطف بولس لكي يمتّع نظره بحقائق لا توصف “أعرف رجلاً مؤمنًا بالمسيح أُختطف إلى السماء الثالثة ]…[ اختُطف إلى الفردوس، وسمع كلمات لا تُلفظ ولا يحّل لإنسانٍ أن يذكرها” (2 قور 12: 2-4). هنا أيضًا المعنى المُعتاد لكلمة الفردوس في النصوص المسيحيّة “اختطفته الملائكة وأخذته إلى الفردوس”. نعم، الفردوس إذًا أصبح مفتوحًا لكلّ الذين يموتون في الربّ. “الذين يموتون في نعمة الله وصداقته، وقد تطهّروا كليًّا، يحيون على الدوام مع المسيح. إنّهم سيكونون على الدوام أمثاله لأنّهم سيعاينونه “كما هو” (1 يو 3: 2)، وجهًا إلى وجه” (1 كور 13: 12).]…[ كانوا ويكونون وسيكونون في السماء، في ملكوت السماوات وفي الفردوس السماويّ مع المسيح…”[8]
[1] التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، المكتبة البولسيّة، لبنان، 1999، عدد 374
[2] المرجع السابق، عدد 1024
[3] المرجع السابق، عدد 1027
[4] الأب أوغسطين دُويرِه لاتُور، دراسة في الإسكاتولوجيا، دار المشرق، بيروت، 1999، ص 9
[5] التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، المكتبة البولسيّة، لبنان، 1999، عدد 1026
[6] “فالمقصود هو الفترة الزمنيّة التي تفصل مجيء المسيح عن النهاية… وفي هذه الحال، تعني مملكة الألف سنة أنّ مجيء المسيح يفتح للمؤمن منذ الآن باب الدخول الحقيقيّ إلى حياة الفردوس”. الأب أوغسطين دُويرِه لاتُور، دراسة في الإسكاتولوجيا، دار المشرق، بيروت، 1999، ص 27
[7] المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ، دستور راعويّ، فرح ورجاء، عدد 39
[8] التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، المكتبة البولسيّة، لبنان، 1999، عدد 1023