fishing sea

Pixabay - CC0

شبكة الرّسل وشبكة الانترنت (1)

تمهيد   “لأجل كلمتك ألقي الشّبكة” قالها بطرس لسيّد الكون الذي يأمر البحر فيهدأ، ويحطّم أجنحة العواصف الهوجاء، راغبا في اصطياد النّاس لملكوته. بَيد أنّ شبكة بطرس والرّسل، وإن لم يتغير جوهرُها مع مرور الزّمن ولم تتبدّل وجهة هدفها، فقد تغاير شكلها […]

Share this Entry

تمهيد
 
“لأجل كلمتك ألقي الشّبكة” قالها بطرس لسيّد الكون الذي يأمر البحر فيهدأ، ويحطّم أجنحة العواصف الهوجاء، راغبا في اصطياد النّاس لملكوته. بَيد أنّ شبكة بطرس والرّسل، وإن لم يتغير جوهرُها مع مرور الزّمن ولم تتبدّل وجهة هدفها، فقد تغاير شكلها وتمدّدت خيوطها، حتّى غدت في أيّامنا شبكة معلومات عالميّة مذهلة، وأداة تواصل اجتماعيّ رهيب.
شبكة من نسيج العالم المعاصر، لم تعد لتستوعبها بحيرة طبريّة العالقة بين مروج الجليل وهضاب الجولان! يدأب اليوم خلفاء الرّسل في دفعها نحو السّماء فتغدو أفقيّة التّشارك وعموديّة الأبعاد، حيث تربط الإنسان بالله، عبر وسائل عصريّة متقنَة من نتاج عقل مبدع، هبة ثمينة هو، من خالق عظيم ومحبّ.
 

  • الكنيسة والتّطوّر

 
قبَيل انعقاد المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثّاني، لمست الكنيسة الكاثوليكية المؤتمنة على كنز الإيمان بيسوع، تطوّرا علميّا وتقنّيا جدّيا في العالم، إذ بدا كلّ شيء يتغيّر في سرعة غير معهودة، ويسير في طريق التّقدّم العلميّ السّريع عبر اكتشافات جديدة باهرة، في عالم الفضاء والطّبّ والتّكنولوجيا على مختلف أنواعها وأشكالها. فقرّرت وهي المنفتحة على العقل والعلم والثّقافة، أن تواكب العصر وتطّوراته كيما تشهد للسّيّد المسيح وإنجيله في عالم اليوم، عبر الوسائل والتّقنيّات العصريّة المتاحة.
أمّا المجمع المذكور الذي جدّد أسلوب الكنيسة ومنهاجها الكنسيّ التّربويّ فقد دعا إلى اكتشاف ما أسماه “التّقنيّة الرّائعة”؛ لأنّ التّقدّم العلميّ، والتّطوّر التقنيّ، والنّضج الفكريّ، وتنظيم المجتمع البشريّ، خطوات جديدة يمكنها أن تقود الإنسان في مسيرة الارتقاء إلى سموّ كمال ملكوت الله القدير. كيف لا والكون صنيع يديه، والحياة نفحة منه، والعلم موهبة من روحه القدّوس؛ ممّا جعل البابا بولس السّادس يقول يومها: “إنّ الكنيسة ستشعر أنّها مذنبة أمام الرّبّ ما لم تستعمل وسائل الإعلام في سبيل البشارة”[1].
ربّما ينطبق على موضوع “الانترنت” اليوم، ما قالته الكنيسة آنذاك عن وسائل الإعلام عموما بروح نبويّة مُلفتة: “من بين روائع الاكتشافات التّقنيّة التي بعون الله استخلصتها عبقريّة الإنسان من الخليقة، وبخاصّة في عصرنا، تتقبّل الكنيسة وتتابع باهتمام تلك التي بطريقة مباشرة، تتوجّه إلى قوى الانسان الرّوحيّة وتقدِّم إمكانيّات واسعة لنقل مختلف الأخبار والآراء والتّوجيهات، بسهولة أكبر”[2].
 
 

  • “الانترنت” ثورة وثروة

 
عصر المعلوماتيّة هو. بل زمن التّقدّم البشريّ والتّطّور العلميّ والتّقنيّ. لا يمكن للكنيسة أن تقف إزاءه مكتوفة اليدين. لذا، شرع الكرسيّ الرّسوليّ بمواكبته قبل يوبيل سنة الألفين، فكان سبّاقا في إدخال الإنترنت إلى دوائر حاضرة الفاتيكان بطريقة مدروسة ومنظّمة، حيث أصبح للفاتيكان موقعه الرّسميّ منذ عام 1997، وهو اليوم عبارة عن 500،000 صفحة؛ كما شرع منذ ذلك الحين بإطلاق بعض الدّورات التّدريبيّة لتأهيل موظّفيه وإيلاجهم في عالم الإنترنت.
أدركت الكنيسة الكاثوليكيّة في الواقع، أنّ هذا الاكتشاف الحديث سوف “يسهم في إحداث تغييرات ثوريّة في مجال التّجارة والتّربية والسّياسة والصّحافة والعلاقات بين الأمم والثّقافات”[3]. بل هو ثورة عالميّة قد أطلقت بالفعل لتبدّل طريقة عيش المجتمعات البشريّة برمّتها.
فالانترنت بتحديده العلميّ التّقنيّ هو شبكة اتصّالات، بل قل شبكة تشارك، وشركة تواصل عالميّ عبر تقنيّة عصريّة رفيعة المستوى، و”الكنيسة بحدّ ذاتها شركة، واتّصال بين أشخاص وجماعات إفخارستيّة تنبع من الثّالوث وتعكس شركته”. جوهر الكنيسة هو التّشارك في المحبّة. أمّا ما يهمّنا من شأن الإنترنت كنسيّا ومسيحيّا فكونه وسيلة فريدة في عصرنا، لإعلان حقيقة المسيح الخلاصيّة إلى العائلة البشريّة برمّتها.
وعليه، يجب استخدام هذه التّقنيّة المذكورة للكرازة الجديدة والتّوجيه الروحيّ والرّعويّ، ونشر القيم المسيحيّة والإنسانيّة والمبادئ الخلقيّة الصّحيحة، لأنّ عالمنا اليوم بحاجّة ماسّة إلى إعادة تبشير بلغة يفهمها أبناء العصر، الأمر الذي حمل البابا السّابق بنديكتوس السّادس عشر على إنشاء دائرة جديدة في حاضرة الفاتيكان للاهتمام بما أسماه “البشارة الجديدة”.
وقد انتشرت المواقع الدّينيّة، وتكاثرت، واختلط الخاصّ مع العام، والشّخصيّ مع الرّسميّ إلى أن أصبح التّمييز بين المواقع الكنسيّة الرّسميّة وغير الرّسميّة ضرورة ملحّة من أجل توجيه المؤمنين “الانترناتيّين” توجيها صحيحا. فالمواقع الرّسميّة عموما باتت معروفة، فمن الموقع الرّسميّ لحاضرة الفاتيكان ومواقع بعض دوائره، إلى موقع إذاعة الفاتيكان بكافّة أقسامها، ثمّ المواقع المعنيّة بنقل أخبار الحبر الأعظم، ومواقع الكنائس البطريركيّة والأبرشيّات والرّعايا والرّهبانيّات والبازيليكات والجامعات والمدارس الكاثوليكيّة… كلّها  مواقع صادرة عن جهّات رسميّة.
أمّا المواقع غير الرّسميّة، فهي قد تخصّ أفرادا من “ذويّ النّوايا الحسنة والمتنبّهين”[4]، إذ تعود ملكيّتها الفكريّة إليهم، فيعنون بإدارتها وتأوينها، إلاّ أنّها لو نسبت لنفسها أحيانا الهويّة الكاثوليكيّة واتّخذت طابعا روحيّا أو تبشيريّا خاصّا، فهي لا تمثّل الكنيسة بشيء؛ ولكن لا ضير إن استمرّت في  تأدية رسالة مسيحيّة صحيحة، قد يُجنى منها خير كثير وفائدة كبرى.
والجدير بالذّكر أيضا أنّ الكثير من المسؤولين الكنسيّين وعلى رأسهم قداسة البابا نفسه، وبعض البطاركة، والأساقفة، والكهنة، والرّهبان والرّاهبات، لديهم صفحات خاصّة على مواقع التّواصل الاجتماعيّ من “Facebook”، و”Twitter” وغيرها، وهم يتواصلون مع أبنائهم ورعاياهم وأصدقائهم بطريقة نبيلة وراقية، مباشرة أو عبر أشخاص مكلّفين، فيبثّونهم قيم الإنجيل وتعاليم الكنيسة وتوجيهاتها. فتراهم يستعملون شبكة الإنترنت للبشارة والخير والمحبّة ولتقديم يسوع للعالم لا أنفسهم، ممّا يتوافق مع ما دعا إليه القدّيس يوحنّا بولس الثّاني من ضرورة إيجاد اتّصالات صادقة وحرّة تساهم بتشجيع تقدّم العالم تقدّما تامّا؛ من دون إغفال إمكانيّة النّقد السّليمة تجاه قوى وسائل الاتّصال “المقَنَّعة”[5].
 [1] راجع، “الكنيسة والانترنت” المجلس الحبريّ لوسائل الإعلام والاتّصال الاجتماعيّة، حاضرة الفاتيكان 2002،  فقرة 3.
 
[2]  راجع، يوحنّا بولس الثّاني، الرّسالة الرّسوليّة، التّقدّم السّريع، للمسؤولين عن وسائل الاتّصالات الاجتماعيّة، حاضرة الفاتيكان 2005، فقرة 1.
[3]  راجع، “الكنيسة والانترنت”…،  فقرة 2.
 
[4]  المرجع نفسه، فقرة 8.
 
[5]  راجع، يوحنّا بولس الثّاني، الرّسالة الرّسوليّة…، فقرة 13.
 

Share this Entry

الأب فرنسوا عقل المريمي

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير