(يمكنك قراءة القسم الأول من المقالة هنا)
- البُعد اللاهوتيّ
ثمّة تواصل سرمديّ في سرّ الله الواحد والثّالوث يفيض محبّة لا حدود لها، تشمل بتواصلها البشريّة برمّتها.
فالابن المتجسّد الذي جعلنا صيّادي ناس، هو “الكلمة” الذي نطق به الآب منذ الأزل، وكلّمنا به. -ثمّة اصطلاح لاهوتيّ قديم يُشار بموجبه إلى “كلمة الله” بصيغة المذكّر للدّلالة على يسوع-.
وعليه، ينطلق الاتّصال الرّوحيّ في الكنيسة وبواسطتها من شركة الحبّ القائمة بين الأقانيم الإلهيّة الثلاثة وفي اتّصالهم بنا[1].
رائع ما حضّ عليه القدّيس يوحنّا بولس الثّاني في رسالته بمناسبة اليوم العالميّ الخامس والثّلاثين لوسائل الإعلام قائلا: “فليبشّر الكاثوليك المنخرطون في الحقل الإعلاميّ بشارة دائمة ومن على السّطوح، بشارة حقيقة يسوع، مفعمة بالشّجاعة والفرح، لكي يعرف البشر، رجالا ونساء، محبّة من هو قلب الإعلام الذّاتيّ الإلهيّ في يسوع المسيح الذي هو أمس واليوم وإلى الأبد”[2].
فالبشارة الجديدة إذاً، ليست اقتناص أشخاص من طوائف أخرى، ولا “تَكَثْلُكاً” ولا “لَيْتَنَة”، إنّها شهادة حيّة بالقول والعمل أمام الله والنّاس، يمكنها بل عليها أن تستخدم تقنيّات العصر كي تصل إلى كلّ قلب فتقدّر مشاعره، وكلّ فكر فتحترم معتقداته، وكلّ ثقافة فتقرّ بفرادتها. إنّها تنادي بمنطق العهد الجديد، فتعرض من دون أن تفرض، وتتوجّه إلى الأرض كلّها وتعلن البشارة إلى الخلق أجمع من أجل الحبّ والخلاص، تشبّها بالينبوع الذي يعطي الماء بدون بَدَل، ولا يسألُ العطشان: قُلْ لي قبل أن أسقيك من أي بلدٍ أنت؟ بحسب تعبير الطّوباويّ يعقوب الكبّوشيّ.
لذا على الكنيسة ألاّ تكفّ عن السّعي وراء تعميق حوارها مع العالم المعاصر عبر وسائل الاتّصال الاجتماعيّ عموما، والانترنت بصورة خاصّة.
- مسؤوليّة القيّمين
بات من المحبّذ اليوم بل من الضّرورة بمقدار، أن يدخل الإنترنت إلى بيوتنا وعائلاتنا. لا، بل قد دخل إلى معظمها منذ زمن، وأصبح نظير المذياع والتّلفاز أو ربّما بديلا عنهما. بَيد أنّه يجب استخدامه بحكمة وفطنة ومن دون إفراط، كونه يخبئ في طيّاته الخير والشّرّ معا. قد يثقّف النّفس كما قد يستعبدها ويبليها بشرور الشّهوات، ويغرقها في أوحال الانحرافات وقتل الوقت، إذ قد ينسى المرء نفسه أمامه ساعات وساعات بدون أن يدرك أنّ من يقتلُ الوقتَ يقتله الوقت.
لهذا السّبب، تدعو الكنيسةُ الأهلَ وسائر القيّمين على التّربية والتّنشئة، إلى مراقبة أجهزة أولادهم والموكلة إليهم عنايتهم، عبر استعمال تقنيّة “التّنقية” (filtrage) وغيرها من البرامج إذا لزم الأمر، بهدف حمايتهم من أخطار الإباحيّة والمقتنصين الجنسيّين وسوى ذلك من الأخطار. كما ينبغي أن يناقشوا مع أولادهم كلّ تلك المخاطر ويساعدوهم كي يجعلوا من ضمائرهم “أداة التّنقية” المشار إليها، كون الانترنت وسيلة ذات حدّين ممكن أن تُغني حياة النّاشئين إلى درجة كبيرة، وبوسعها أيضا أن تغرقهم في الاستهلاك والتّخيّل الإباحيّ والعنفيّ والانعزال المرَضيّ[3]. فهو ليس للتّسلية وحسب بل للعمل المفيد.
كما يمكن لوسائل الإعلام جميهعا أن تصنع شتاء وصيفا في آن معا. فوفقا لاستعمالها قد تنشأ في النّفوس بعض المشاعر المتباينة من رحمة أو تصلّب، أو ربّما انطواء على عالم من الحوافز النّرجسيّة المنغلقة على ذاتها التي لا تختلف عواقبها أحيانا عن عواقب المخدّرات[4].
- دور الكنيسة
يخطئ من يظنّ أنّ الإنترنت هو فقط مورد للاستعلامات الكثيرة والكبيرة، ويغفل عن كونه وسيلة رائعة قد تُعوّد النّاس أيضا على تواصل فعليّ وتفاعليّ.
مسيحيّون عديدون يستعملون اليوم تلك الوسائل الجديدة بطريقة خلاّقة، عبر استخدام إمكاناتها الواسعة لنقل البشارة والتّربية والتّثقيف والاتّصالات الدّاخلية والادارة والتّدبير.
فللكنيسة -كما أسلفنا- دور أساسيّ في عالم اليوم، وهي مدعوّة بإلحاح لا لنشر البشارة فحسب، بل إلى إدخال رسالة الخلاص في الثّقافة الحديثة. لأنّ إعلاء قيمة وسائل الاتّصال ليس حكرا على المحترفين وحدهم، بل هو عمل الجماعة الكنسيّة كلّها[5].
وفي هذا السّياق بادر الأب فيديريكو لومباردي مدير دار الصّحافة الرّسوليّة عام 2011، إلى حضّ المسيحيّين على أداء شهادة ذات مصداقيّة على شبكة الانترنت، إذ قد تحوّل العالم إلى شبكة اجتماعيّة واسعة المدى بفضل دور الإنترنت المهيمن في المجتمعات. لذا، ينبغي على المسيحيين في خضمّ ذلك، أن يحرصوا على إبقاء كرامة الإنسان محورا أساسيّا.
إنها ثقافة على حدّ قول الأب لومباردي، يغوص فيها الشّباب بعمق، حيث يختبرون تلك الفرصة الرّائعة المتمثّلة بالعلاقات الجديدة، ويواجهون في آن معا، تلك المخاطر المتنامية المرتبطة بالعزلة أو الابتعاد عن الحياة اليوميّة.
خاتمة
مهما كان الأمر، تبقى مقاربة الكنيسة للثّقافة الرّقميّة الجديدة إيجابيّة جدّا. لا بل كانت سبّاقة في استخدامها واعتمادها.
إنّها الشّبكة الجديدة التي ينبغي أن تلقى في بحار المجتمعات المادّيّة الحديثة، لاصطياد أبناء هذا العصر لملكوت يسوع. فلو عاش الرّسل في أيامنا، لتركوا شبكة طبريّة على إحدى ضفافها، واستخدموا شبكة التّواصل الاجتماعيّ المتّبعة في أيّامنا، ليبشّروا بإنجيل ذلك الذي عُلّق على خشبة العار مصلوبا، لأجل خلاص العالم.
وها صدى كلمات القديس يوحنا بولس الثاني المنفتحة على العلم والتّقدّم، ما زال يدّويّ في براري مجتمعاتنا المعاصرة مردّدا: “لا تخافوا من التّكنولوجيّات الحديثة فهي جزء من العظائم التي وضعها الله في تصرّفنا لكي نكشف الحقيقة ونستعملها وننشرها وبخاصّة حقيقة كرامتنا ومصيرنا كأبناء لله وورثة ملكوته الأبديّ”[6].
المصادر والمراجع
- المجلس الحبريّ لوسائل الإعلام والاتّصال الاجتماعيّة، “وسائل الإعلام والاتّصال الاجتماعيّة، أخلاقيّات وآداب”، حاضرة الفاتيكان 2000؛
- المجلس الحبريّ لوسائل الإعلام والاتّصال الاجتماعيّة، “الكنيسة والانترنت”، حاضرة الفاتيكان 2002؛
- يوحنّا بولس الثّاني، الرّسالة الرّسوليّة، التّقدّم السّريع، للمسؤولين عن وسائل الاتّصالات الاجتماعيّة، حاضرة الفاتيكان 2005.
[1] راجع، “وسائل الإعلام والاتّصال الاجتماعيّة، أخلاقيّات وآداب”، المجلس الحبريّ لوسائل الإعلام والاتّصال الاجتماعيّة، حاضرة الفاتيكان 2000، فقرة 3.
[2] راجع، “الكنيسة والانترنت”…، فقرة 12.
[3] المرجع نفسه، فقرة 11.
[4] راجع، “وسائل الإعلام والاتّصال الاجتماعيّة… فقرة 1.
[5] راجع، يوحنّا بولس الثّاني، الرّسالة الرّسوليّة…، فقرة 5، 7، 9.
[6] راجع، يوحنّا بولس الثّاني، الرّسالة الرّسوليّة…، فقرة 14.