تمهيد
“لأجل كلمتك ألقي الشّبكة” قالها بطرس لسيّد الكون الذي يأمر البحر فيهدأ، ويحطّم أجنحة العواصف الهوجاء، راغبا في اصطياد النّاس لملكوته. بَيد أنّ شبكة بطرس والرّسل، وإن لم يتغير جوهرُها مع مرور الزّمن ولم تتبدّل وجهة هدفها، فقد تغاير شكلها وتمدّدت خيوطها، حتّى غدت في أيّامنا شبكة معلومات عالميّة مذهلة، وأداة تواصل اجتماعيّ رهيب.
شبكة من نسيج العالم المعاصر، لم تعد لتستوعبها بحيرة طبريّة العالقة بين مروج الجليل وهضاب الجولان! يدأب اليوم خلفاء الرّسل في دفعها نحو السّماء فتغدو أفقيّة التّشارك وعموديّة الأبعاد، حيث تربط الإنسان بالله، عبر وسائل عصريّة متقنَة من نتاج عقل مبدع، هبة ثمينة هو، من خالق عظيم ومحبّ.
- الكنيسة والتّطوّر
قبَيل انعقاد المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثّاني، لمست الكنيسة الكاثوليكية المؤتمنة على كنز الإيمان بيسوع، تطوّرا علميّا وتقنّيا جدّيا في العالم، إذ بدا كلّ شيء يتغيّر في سرعة غير معهودة، ويسير في طريق التّقدّم العلميّ السّريع عبر اكتشافات جديدة باهرة، في عالم الفضاء والطّبّ والتّكنولوجيا على مختلف أنواعها وأشكالها. فقرّرت وهي المنفتحة على العقل والعلم والثّقافة، أن تواكب العصر وتطّوراته كيما تشهد للسّيّد المسيح وإنجيله في عالم اليوم، عبر الوسائل والتّقنيّات العصريّة المتاحة.
أمّا المجمع المذكور الذي جدّد أسلوب الكنيسة ومنهاجها الكنسيّ التّربويّ فقد دعا إلى اكتشاف ما أسماه “التّقنيّة الرّائعة”؛ لأنّ التّقدّم العلميّ، والتّطوّر التقنيّ، والنّضج الفكريّ، وتنظيم المجتمع البشريّ، خطوات جديدة يمكنها أن تقود الإنسان في مسيرة الارتقاء إلى سموّ كمال ملكوت الله القدير. كيف لا والكون صنيع يديه، والحياة نفحة منه، والعلم موهبة من روحه القدّوس؛ ممّا جعل البابا بولس السّادس يقول يومها: “إنّ الكنيسة ستشعر أنّها مذنبة أمام الرّبّ ما لم تستعمل وسائل الإعلام في سبيل البشارة”[1].
ربّما ينطبق على موضوع “الانترنت” اليوم، ما قالته الكنيسة آنذاك عن وسائل الإعلام عموما بروح نبويّة مُلفتة: “من بين روائع الاكتشافات التّقنيّة التي بعون الله استخلصتها عبقريّة الإنسان من الخليقة، وبخاصّة في عصرنا، تتقبّل الكنيسة وتتابع باهتمام تلك التي بطريقة مباشرة، تتوجّه إلى قوى الانسان الرّوحيّة وتقدِّم إمكانيّات واسعة لنقل مختلف الأخبار والآراء والتّوجيهات، بسهولة أكبر”[2].
- “الانترنت” ثورة وثروة
عصر المعلوماتيّة هو. بل زمن التّقدّم البشريّ والتّطّور العلميّ والتّقنيّ. لا يمكن للكنيسة أن تقف إزاءه مكتوفة اليدين. لذا، شرع الكرسيّ الرّسوليّ بمواكبته قبل يوبيل سنة الألفين، فكان سبّاقا في إدخال الإنترنت إلى دوائر حاضرة الفاتيكان بطريقة مدروسة ومنظّمة، حيث أصبح للفاتيكان موقعه الرّسميّ منذ عام 1997، وهو اليوم عبارة عن 500،000 صفحة؛ كما شرع منذ ذلك الحين بإطلاق بعض الدّورات التّدريبيّة لتأهيل موظّفيه وإيلاجهم في عالم الإنترنت.
أدركت الكنيسة الكاثوليكيّة في الواقع، أنّ هذا الاكتشاف الحديث سوف “يسهم في إحداث تغييرات ثوريّة في مجال التّجارة والتّربية والسّياسة والصّحافة والعلاقات بين الأمم والثّقافات”[3]. بل هو ثورة عالميّة قد أطلقت بالفعل لتبدّل طريقة عيش المجتمعات البشريّة برمّتها.
فالانترنت بتحديده العلميّ التّقنيّ هو شبكة اتصّالات، بل قل شبكة تشارك، وشركة تواصل عالميّ عبر تقنيّة عصريّة رفيعة المستوى، و”الكنيسة بحدّ ذاتها شركة، واتّصال بين أشخاص وجماعات إفخارستيّة تنبع من الثّالوث وتعكس شركته”. جوهر الكنيسة هو التّشارك في المحبّة. أمّا ما يهمّنا من شأن الإنترنت كنسيّا ومسيحيّا فكونه وسيلة فريدة في عصرنا، لإعلان حقيقة المسيح الخلاصيّة إلى العائلة البشريّة برمّتها.
وعليه، يجب استخدام هذه التّقنيّة المذكورة للكرازة الجديدة والتّوجيه الروحيّ والرّعويّ، ونشر القيم المسيحيّة والإنسانيّة والمبادئ الخلقيّة الصّحيحة، لأنّ عالمنا اليوم بحاجّة ماسّة إلى إعادة تبشير بلغة يفهمها أبناء العصر، الأمر الذي حمل البابا السّابق بنديكتوس السّادس عشر على إنشاء دائرة جديدة في حاضرة الفاتيكان للاهتمام بما أسماه “البشارة الجديدة”.
وقد انتشرت المواقع الدّينيّة، وتكاثرت، واختلط الخاصّ مع العام، والشّخصيّ مع الرّسميّ إلى أن أصبح التّمييز بين المواقع الكنسيّة الرّسميّة وغير الرّسميّة ضرورة ملحّة من أجل توجيه المؤمنين “الانترناتيّين” توجيها صحيحا. فالمواقع الرّسميّة عموما باتت معروفة، فمن الموقع الرّسميّ لحاضرة الفاتيكان ومواقع بعض دوائره، إلى موقع إذاعة الفاتيكان بكافّة أقسامها، ثمّ المواقع المعنيّة بنقل أخبار الحبر الأعظم، ومواقع الكنائس البطريركيّة والأبرشيّات والرّعايا والرّهبانيّات والبازيليكات والجامعات والمدارس الكاثوليكيّة… كلّها مواقع صادرة عن جهّات رسميّة.
أمّا المواقع غير الرّسميّة، فهي قد تخصّ أفرادا من “ذويّ النّوايا الحسنة والمتنبّهين”[4]، إذ تعود ملكيّتها الفكريّة إليهم، فيعنون بإدارتها وتأوينها، إلاّ أنّها لو نسبت لنفسها أحيانا الهويّة الكاثوليكيّة واتّخذت طابعا روحيّا أو تبشيريّا خاصّا، فهي لا تمثّل الكنيسة بشيء؛ ولكن لا ضير إن استمرّت في تأدية رسالة مسيحيّة صحيحة، قد يُجنى منها خير كثير وفائدة كبرى.
والجدير بالذّكر أيضا أنّ الكثير من المسؤولين الكنسيّين وعلى رأسهم قداسة البابا نفسه، وبعض البطاركة، والأساقفة، والكهنة، والرّهبان والرّاهبات، لديهم صفحات خاصّة على مواقع التّواصل الاجتماعيّ من “Facebook”، و”Twitter” وغيرها، وهم يتواصلون مع أبنائهم ورعاياهم وأصدقائهم بطريقة نبيلة وراقية، مباشرة أو عبر أشخاص مكلّفين، فيبثّونهم قيم الإنجيل وتعاليم الكنيسة وتوجيهاتها. فتراهم يستعملون شبكة الإنترنت للبشارة والخير والمحبّة ولتقديم يسوع للعالم لا أنفسهم، ممّا يتوافق مع ما دعا إليه القدّيس يوحنّا بولس الثّاني من ضرورة إيجاد اتّصالات صادقة وحرّة تساهم بتشجيع تقدّم العالم تقدّما تامّا؛ من دون إغفال إمكانيّة النّقد السّليمة تجاه قوى وسائل الاتّصال “المقَنَّعة”[5].
- البُعد اللاهوتيّ
ثمّة تواصل سرمديّ في سرّ الله الواحد والثّالوث يفيض محبّة لا حدود لها، تشمل بتواصلها البشريّة برمّتها.
فالابن المتجسّد الذي جعلنا صيّادي ناس، هو “الكلمة” الذي نطق به الآب منذ الأزل، وكلّمنا به. -ثمّة اصطلاح لاهوتيّ قديم يُشار بموجبه إلى “كلمة الله” بصيغة المذكّر للدّلالة على يسوع-.
وعليه، ينطلق الاتّصال الرّوحيّ في الكنيسة وبواسطتها من شركة الحبّ القائمة بين الأقانيم الإلهيّة الثلاثة وفي اتّصالهم بنا[6].
رائع ما حضّ عليه القدّيس يوحنّا بولس الثّاني في رسالته بمناسبة اليوم العالميّ الخامس والثّلاثين لوسائل الإعلام قائلا: “فليبشّر الكاثوليك المنخرطون في الحقل الإعلاميّ بشارة دائمة ومن على السّطوح، بشارة حقيقة يسوع، مفعمة بالشّجاعة والفرح، لكي يعرف البشر، رجالا ونساء، محبّة من هو قلب الإعلام الذّاتيّ الإلهيّ في يسوع المسيح الذي هو أمس واليوم وإلى الأبد”[7].
فالبشارة الجديدة إذاً، ليست اقتناص أشخاص من طوائف أخرى، ولا “تَكَثْلُكاً” ولا “لَيْتَنَة”، إنّها شهادة حيّة بالقول والعمل أمام الله والنّاس، يمكنها بل عليها أن تستخدم تقنيّات العصر كي تصل إلى كلّ قلب فتقدّر مشاعره، وكلّ فكر فتحترم معتقداته، وكلّ ثقافة فتقرّ بفرادتها. إنّها تنادي بمنطق العهد الجديد، فتعرض من دون أن تفرض، وتتوجّه إلى الأرض كلّها وتعلن البشارة إلى الخلق أجمع من أجل الحبّ والخلاص، تشبّها بالينبوع الذي يعطي الماء بدون بَدَل، ولا يسألُ العطشان: قُلْ لي قبل أن أسقيك من أي بلدٍ أنت؟ بحسب تعبير الطّوباويّ يعقوب الكبّوشيّ.
لذا على الكنيسة ألاّ تكفّ عن السّعي وراء تعميق حوارها مع العالم المعاصر عبر وسائل الاتّصال الاجتماعيّ عموما، والانترنت بصورة خاصّة.
- مسؤوليّة القيّمين
بات من المحبّذ اليوم بل من الضّرورة بمقدار، أن يدخل الإنترنت إلى بيوتنا وعائلاتنا. لا، بل قد دخل إلى معظمها منذ زمن، وأصبح نظير المذياع والتّلفاز أو ربّما بديلا عنهما. بَيد أنّه يجب استخدامه بحكمة وفطنة ومن دون إفراط، كونه يخبئ في طيّاته الخير والشّرّ معا. قد يثقّف النّفس كما قد يستعبدها ويبليها بشرور الشّهوات، ويغرقها في أوحال الانحرافات وقتل الوقت، إذ قد ينسى المرء نفسه أمامه ساعات وساعات بدون أن يدرك أنّ من يقتلُ الوقتَ يقتله الوقت.
لهذا السّبب، تدعو الكنيسةُ الأهلَ وسائر القيّمين على التّربية والتّنشئة، إلى مراقبة أجهزة أولادهم والموكلة إليهم عنايتهم، عبر استعمال تقنيّة “التّنقية” (filtrage) وغيرها من البرامج إذا لزم الأمر، بهدف حمايتهم من أخطار الإباحيّة والمقتنصين الجنسيّين وسوى ذلك من الأخطار. كما ينبغي أن يناقشوا مع أولادهم كلّ تلك المخاطر ويساعدوهم كي يجعلوا من ضمائرهم “أداة التّنقية” المشار إليها، كون الانترنت وسيلة ذات حدّين ممكن أن تُغني حياة النّاشئين إلى درجة كبيرة، وبوسعها أيضا أن تغرقهم في الاستهلاك والتّخيّل الإباحيّ والعنفيّ والانعزال المرَضيّ[8]. فهو ليس للتّسلية وحسب بل للعمل المفيد.
كما يمكن لوسائل الإعلام جميهعا أن تصنع شتاء وصيفا في آن معا. فوفقا لاستعمالها قد تنشأ في النّفوس بعض المشاعر المتباينة من رحمة أو تصلّب، أو ربّما انطواء على عالم من الحوافز النّرجسيّة المنغلقة على ذاتها التي لا تختلف عواقبها أحيانا عن عواقب المخدّرات[9].
- دور الكنيسة
يخطئ من يظنّ أنّ الإنترنت هو فقط مورد للاستعلامات الكثيرة والكبيرة، ويغفل عن كونه وسيلة رائعة قد تُعوّد النّاس أيضا على تواصل فعليّ وتفاعليّ.
مسيحيّون عديدون يستعملون اليوم تلك الوسائل الجديدة بطريقة خلاّقة، عبر استخدام إمكاناتها الواسعة لنقل البشارة والتّربية والتّثقيف والاتّصالات الدّاخلية والادارة والتّدبير.
فللكنيسة -كما أسلفنا- دور أساسيّ في عالم اليوم، وهي مدعوّة بإلحاح لا لنشر البشارة فحسب، بل إلى إدخال رسالة الخلاص في الثّقافة الحديثة. لأنّ إعلاء قيمة وسائل الاتّصال ليس حكرا على المحترفين وحدهم، بل هو عمل الجماعة الكنسيّة كلّها[10].
وفي هذا السّياق بادر الأب فيديريكو لومباردي مدير دار الصّحافة الرّسوليّة عام 2011، إلى حضّ المسيحيّين على أداء شهادة ذات مصداقيّة على شبكة الانترنت، إذ قد تحوّل العالم إلى شبكة اجتماعيّة واسعة المدى بفضل دور الإنترنت المهيمن في المجتمعات. لذا، ينبغي على المسيحيين في خضمّ ذلك، أن يحرصوا على إبقاء كرامة الإنسان محورا أساسيّا.
إنها ثقافة على حدّ قول الأب لومباردي، يغوص فيها الشّباب بعمق، حيث يختبرون تلك الفرصة الرّائعة المتمثّلة بالعلاقات الجديدة، ويواجهون في آن معا، تلك المخاطر المتنامية المرتبطة بالعزلة أو الابتعاد عن الحياة اليوميّة.
خاتمة
مهما كان الأمر، تبقى مقاربة الكنيسة للثّقافة الرّقميّة الجديدة إيجابيّة جدّا. لا بل كانت سبّاقة في استخدامها واعتمادها.
إنّها الشّبكة الجديدة التي ينبغي أن تلقى في بحار المجتمعات المادّيّة الحديثة، لاصطياد أبناء هذا العصر لملكوت يسوع. فلو عاش الرّسل في أيامنا، لتركوا شبكة طبريّة على إحدى ضفافها، واستخدموا شبكة التّواصل الاجتماعيّ المتّبعة في أيّامنا، ليبشّروا بإنجيل ذلك الذي عُلّق على خشبة العار مصلوبا، لأجل خلاص العالم.
وها صدى كلمات القديس يوحنا بولس الثاني المنفتحة على العلم والتّقدّم، ما زال يدّويّ في براري مجتمعاتنا المعاصرة مردّدا: “لا تخافوا من التّكنولوجيّات الحديثة فهي جزء من العظائم التي وضعها الله في تصرّفنا لكي نكشف الحقيقة ونستعملها وننشرها وبخاصّة حقيقة كرامتنا ومصيرنا كأبناء لله وورثة ملكوته الأبديّ”[11].
المصادر والمراجع
- المجلس الحبريّ لوسائل الإعلام والاتّصال الاجتماعيّة، “وسائل الإعلام والاتّصال الاجتماعيّة، أخلاقيّات وآداب”، حاضرة الفاتيكان 2000؛
- المجلس الحبريّ لوسائل الإعلام والاتّصال الاجتماعيّة، “الكنيسة والانترنت”، حاضرة الفاتيكان 2002؛
- يوحنّا بولس الثّاني، الرّسالة الرّسوليّة، التّقدّم السّريع، للمسؤولين عن وسائل الاتّصالات الاجتماعيّة، حاضرة الفاتيكان 2005.
[1] راجع، “الكنيسة والانترنت” المجلس الحبريّ لوسائل الإعلام والاتّصال الاجتماعيّة، حاضرة الفاتيكان 2002، فقرة 3.
[2] راجع، يوحنّا بولس الثّاني، الرّسالة الرّسوليّة، التّقدّم السّريع، للمسؤولين عن وسائل الاتّصالات الاجتماعيّة، حاضرة الفاتيكان 2005، فقرة 1.
[3] راجع، “الكنيسة والانترنت”…، فقرة 2.
[4] المرجع نفسه، فقرة 8.
[5] راجع، يوحنّا بولس الثّاني، الرّسالة الرّسوليّة…، فقرة 13.
[6] راجع، “وسائل الإعلام والاتّصال الاجتماعيّة، أخلاقيّات وآداب”، المجلس الحبريّ لوسائل الإعلام والاتّصال الاجتماعيّة، حاضرة الفاتيكان 2000، فقرة 3.
[7] راجع، “الكنيسة والانترنت”…، فقرة 12.
[8] المرجع نفسه، فقرة 11.
[9] راجع، “وسائل الإعلام والاتّصال الاجتماعيّة… فقرة 1.
[10] راجع، يوحنّا بولس الثّاني، الرّسالة الرّسوليّة…، فقرة 5، 7، 9.
[11] راجع، يوحنّا بولس الثّاني، الرّسالة الرّسوليّة…، فقرة 14.