بهذا النشيدِ الاحتفاليِّ المُبهِجِ الذي أعلنَهُ الملائكة، نستقبلُ ميلادَ ربِّنا يسوعَ المسيح، في هذهِ السنةِ وهذهِ الظروفِ المميزة، في كاتدرائيتِنا الحبيبة، كنيسةِ آبائِنا وأجدادِنا، التي لطالما امتزجَ فيها خشوعُ الإيمانِ ودفؤُهُ مع عظمةِ جمالِها. جريحةٌ عادتْ إلينا، بل عُدنا إليها، لنعظّمَ فيها الربَّ ولنلقي بينَ يديه، جراحَنا وهمومَنا وآلامَنا، فيرمِّمَنا ويفرِّجَ عنّا بالرجاءِ الصالحِ الذي يمنحُهُ لبني البشر. جئنا إلى الكاتدرائيةِ لنحتفلَ بعيدِ تجسِّدِ ربِّنا يسوعَ المسيح، وهيَ المرةُ الأولى لي كراعٍ ما زالَ جديداً للأبرشية، والكاتدرائيةُ هي كنيسةُ الراعي، جئتُ مع إخوتي الكهنةِ الرعاةِ ومعكُم أيها الأخوة، لنستهلَّ عهداً جديداً، عهدَ رجاءٍ شافٍ ليأسٍ أنهَكَنا، عهدَ سلامٍ يعودُ إلينا، إلى مدينتِنا وإلى وطنِنا الحبيبِ سورية، عهدَ تجدُّدٍ للنفوسِ بعدَ أن أثخنتْها جراحاتٌ من الحقدِ والمرارة، عهدَ ولادةِ روحٍ مسيحيةٍ قِوامُها المحبةُ والرحمةُ والسلام.
“وَلَدَتْ ابنَها البكر، فقمّطَتْهُ وأضجعَتْهُ في مذودٍ لأنَّهُ لم يكنْ لهُما موضعٌ في المضافة”! “جاءَ إلى بيتِه فما قبِلَهُ أهلُ بيته”! الإله، الطفل، كليُّ البراءةِ والوداعة، لم يُقبَل! ولدَ خارجَ المدينةِ! لأنَّ مدينتَنا، مضافتَنا، قلوبَنا، ممتلئةٌ بأمورٍ شتى غيرِ الله! ومعَ ذلك سألْنا وما زلنا نسأل: هل تخلّى اللهُ عنّا؟ لا.. إنّهُ “العمانوئيل” “الله معنا”، وهو لا يحنثُ بعهدِهِ الذي قطعَهُ مع آبائِنا، بأن “يكونَ لنا إلهاً ونكونَ لهُ شعباً”. فحتى ولو أخلفْنا عهدَنا معه، يبقى هو أميناً، بل ينحني مِن عليائِهِ علينا، ويختارُ مذوداً بينَنا كي نأتيَ لنتغذّى منه، لنحيا بهِ وفيهِ، لنرتويَ من حبِّهِ ومن سلامِهِ.
في ليلةِ الميلاد، كان الرعاةُ يتناوبونَ السهرَ في الليلِ على رعيّتهم.. لهذا استطاعوا أن يرَوا ملاكَ الربِّ يحضُرُهم وإشراقُ مجدِ الربِّ حولَهم. هكذا كلُّ مؤمنٍ يسهرُ مترقِّباً علاماتِ حضورِ اللهِ في حياتِهِ، يستطيعُ بالرجاءِ أن يرى انبثاقَ النهارِ من بعدِ الليل، أن يرى عظمةَ ومحبةَ اللهِ في وسطِ عالمٍ مليءٍ بمهانةِ الأحقادِ والأنانياتِ المظلمة، وأن يرى الحياةَ تولدُ من الموت. هذا ما نراهُ اليومَ في رمزِ المغارةِ المنبثقةِ من ركامِ هذهِ الكاتدرائية، بل هذا ما أريدُ رؤيتَهُ اليومَ في وجوهِكم، يا مَن أتيتم لتقدّموا عبادتَكم وشكرَكم لـ “اللهُ معنا” للـ “عمانوئيل”، قائلينَ لهُ: لقد وضعنا كلَّ رجاءَنا فيكَ، واتّكالَنا عليكَ، ومحبتَنا لكَ، لأنَّكَ تنفضُ عنا الخوفَ كما نفضّْتَهُ عنِ الرعاةِ ببشارةِ الفرح، الذي هوَ فرحُ اللقاءِ بكَ والحياةِ معَكَ. وسنبقى ساهرينَ كي نراكَ في كلِّ ظروفِ حياتِنا.
بشارةٌ تُعلِنُ “مجدَكَ في الأعالي”: فمع القواتِ السماويةِ والبشرِ والكونِ نُعلِن مع صاحبِ المزامير: “لتحمَدْكَ يا ربُّ جميعُ أعمالِكَ وليبارِكْكَ أصفياؤكَ، ليُحدِّثوا بمجدِ ملكوتِكَ ولينطِقوا بجبروتِك، لكي يُعرِّفوا بني البشرِ مآثِرَكَ ومجدَ بهاءِ ملكوتِكَ” (مز 145/10-12). نعم، إنَّ اللهَ هو ربُّ المجد، هو ربُّ الحياةِ وصانُعها، هو “السيد”. كلُّ ما في العالمِ ينبعُ منهُ ويصبُّ فيه. اللهُ هو الخيرُ الأعظمُ لحياتِنا. وكلُّ مَن يسعى لتمجيدِ اللهِ في حياتِهِ إنّما يسعى إلى سعادتِهِ الشخصية، وسعادةِ مجتمعِهِ.
بشارةٌ تُعِلن “السلامَ على الأرض”: لقد عانَينا كثيراً من فقدانِ السلام، وما ذلكَ إلاّ نتيجةُ ابتعادِ الإنسانِ عنِ الله، فحيثُ يُغَيَّبُ اللهُ يَغيبُ السلام، لأنَّ اللهَ هو سلامُنا، ومنهُ كلُّ سلامٍ حقيقيٍّ دائم. لأنَّ مجدَ اللهِ في الأعالي ينعكسُ سلاماً على الأرض، وبالعكس، مجدُ الإنسانِ وأنانيتُهُ وكبرياؤُهُ ينعكسُ حديداً وناراً.
أسرعَ الرعاةُ فرأوا علامةً لا تدلّ على ألوهةٍ ولا على مجد! رأوا طفلاً لا حولَ لهُ ولا قوة، لأنَّهُ طفل، مقمطاً كالميتِ المكفَّن، بدونِ سريرٍ بل في مذود الغنم! يالدهشةِ الرعاة، بل يا لدهشتِنا من علاماتٍ غيرِ متوقعة! هل تواضعَ إلهُنا لهذا القدْرِ كي يرفعَنا، هل تأنَّسَ إلهُنا لهذا الحدِّ كي يؤلِّهَنا؟
هل نقبلُ بإلهٍ كهذا رغمَ عِلْمِنا أنّ لديهِ وحدَهُ الحياةَ الأبدية؟
لقد عانَينا طيلةَ سنواتٍ، وما زِلنا، من الجوعِ والعطش، المرضِ والألمِ والموت، الخوفِ والاضطراب، فلا ندَعْها تذهبُ سُدىً..إخوتي، دعونا نتأمّلُ عظائمَ اللهِ مثلَ مريم، ونخبرَ بها كالرعاة. فمَن أجدرُ منكم يا مؤمني حلب بالتأمّلِ في حضورِ اللهِ معَنا ومحبتِهِ لنا، وأيُّ فمٍ ولسانٍ أفصحُ من لسانِكم الذي سيُعلِنُ السلامَ لهذا البلدِ وللعالمِ أجمع؟ فدموعُكم صارَتْ نظّاراتٍ رأيتُم من خلالِها المسيحَ بشكلٍ أوضحَ (كما يقول البابا فرنسيس). فلا تذهبْ دموعُكم سُدى ولا تنطفئ بصيرةُ إيمانِكم، بل لنكن صوتَ المسيحِ الذي يدوّي: أحبوا، آمنوا، توبوا، سامحوا، إشهدوا، واصنعوا السلام.
ختاماً، نرفعُ المجدَ والحمدَ والشكرَ لله، ونصلّي على نيةِ السلامِ في وطنِنا وفي العالم، نصلّي على نيةِ المسؤولينَ المدنيينَ والعسكريينَ وفي مُقدمتِهم السيدُ الرئيسُ بشار الأسد، ولأجلِ كلِّ حكامِ العالم، لكي يهديَهُمُ الربُّ في طريقِ السلامِ وخيرِ البشرية. نطلبُ الرحمةَ لأرواحِ الشهداء، والشفاءَ للجرحى، والتعزيةَ للمحزونين، والفرجَ لجميعِ المتألمين، وللذينَ يعانونَ من البردِ والجوعِ وسائرِ المحن. ونصلّي على نيةِ جميعِ المحسنينَ إلينا، والذينَ يصلّونَ لأجلِنا. ونذكرُ أبناءَنَا المغتربينَ في أصقاعِ العالمِ لكي يثبتَهمُ الربُّ على الإيمانِ والشهادةِ لهُ. ومِن حلب، نُطلِق صرخةً إلى الضمائِر في العالمِ أجمَع، كي تهُبَّ لتحافظَ على كرامةِ الإنسان، كي تتصالحَ القلوب، وتتحوّلَ من حجرٍ إلى لحم، وتُغَلَّبَ لغةُ الحوارِ على صوتِ السلاح.
أشكرُ كلَّ مَن عملِ لأجلِ فرصةِ إقامةِ هذا القداسِ الإلهيّ: إخوتي الكهنة، الكشافُ الماروني، الفريقُ الرسوليّ، جوقةُ الترتيل، وسائلُ الإعلام وراديو مريم، وسائرُ ذوي الإرادةِ الصالحة، وملُّ من عملَ في الخفاء. أسألُ اللهَ أن يفيضَ عليهم نعمةَ الميلاد، وعلى كلِّ أهلِنا في حلبَ وسورية السلام. آمين
ولد المسيح.. هللويا
Copyright: Aleppo Maronite
كاتدرائية حلب المارونية تحتفل برجاء الميلاد بالرغم من كل مشاريع الدمار
عظة سيادة المطران يوسف طوبجي السامي الاحترام في القداس الاحتفالي لعيد الميلاد المجيد 2016 من كاتدرائية مار الياس المارونية بحلب “المجدُ للهِ في العُلى، وعلى الأرضِ السلام، والرجاءُ الصالحُ لبني البشر”