زمن الصوم هو بداية جديدة، طريق تقود نحو هدف أكيد: فصح القيامة، انتصار المسيح على الموت. ويوجّه لنا هذا الزمن دومًا دعوة قويّة إلى التوبة: إن المسيحيّ مدعوّ للعودة إلى الله “بكلّ قلبه”، ولعدم الاكتفاء بحياة سطحية وإنما للنمو بالصداقة مع الرب. يسوع هو الصديق المخلص الذي لا يتخلّى عنّا أبدًا، لأنه، حتى وإن أخطأنا، فهو ينتظر بصبر عودتنا إليه، وبهذا الانتظار يُظهر رغبته بالغفران. زمن الصوم هو الزمن المناسب لتكثيف حياة الروح عبر الوسائل المقدسة التي تقدّمها الكنيسة: الصوم، والصلاة، والصدقة. في أساس كلّ شيء نجد كلمة الله، التي نحن مدعوّون في هذا الزمن إلى الإصغاء إليها والتأمّل بها باجتهادٍ أكبر. أودّ التوقّف هنا، بشكل خاص عند مثل الرجل الغنيّ ولعازر الفقير. لنسمح بأن تُلهمنا هذه الصفحة المهمّة، التي تقدّم لنا المفتاح لنفهم ما ينبغي علينا فعله لبلوغ السعادة الحقيقيّة والحياة الأبديّة، وتحضّنا على توبة حقيقية.
1. الآخر هو عطية
يبدأ المثل بتقديم الشخصيّتين الأساسيّتين، ولكن الفقير هو الذي يتمّ وصفه بطريقة مفصّلة: هو في حالة يائسة ولا يملك القوّة لينهض مجدّدًا؛ هو ملقى عند باب الغني ويأكل من الفتات المتساقط من مائدته، تغطي القروح جسمه والكلاب تأتي وتلحسها. إنها صورة قاتمة والرجل مهان ومذلول. ويصبح المشهد أكثر مأساويّة إن اعتبرنا أن الفقير يدعى لعازر: اسم مُحمَّل بالوعود، ويعني حرفيًّا “الله يعين”. وبالتالي فهذا الشخص ليس مجهولا، وملامحه واضحة ويظهر كفرد له قصّة شخصيّة. وفيما يبدو غير مرئي بالنسبة للغني، يُصبح معروفًا ومألوفًا بالنسبة لنا، يُصبح وجهًا؛ وبالتالي عطيّة وكنز لا يُقَدَّر بثمن، كائن محبوب، موجود في ذاكرة الله، حتى وإن كان مرفوضًا على صعيد بشريّ. يعلّمنا لعازر أن الآخر هو عطية. إن العلاقة الصحيحة مع الأشخاص تقوم على الاعتراف بقيمتهم بامتنان. إن الفقير عند باب الغني ليس حِملاً مزعجًا، إنما دعوة إلى الارتداد وتغيير الحياة. إن الدعوة الأولى التي يوجّهها هذا المثل إلينا هي الدعوة لنفتح باب قلبنا للآخر، لأن كلّ شخص هو عطيّة، أكان قريبنا أم الفقير المجهول؛ والصوم هو الزمن الملائم لنفتح الباب لكلّ مُحتاجٍ ونرى فيه أو فيها وجهَ المسيح. كلٌّ منا يلتقي بهم في مسيرته الشخصية. كلُّ حياة نلتقي بها هي عطية، وتستحقّ الاستقبال والاحترام والمحبّة؛ وكلمة الله تساعدنا كي نفتح أعيننا لنستقبل الحياة ونحبّها، وخاصة عندما تكون ضعيفة. ولكن لنتمكّن من القيام بهذا الأمر من الضروري أن نأخذ على محمل الجد أيضًاّ كلّ ما يكشفه لنا الإنجيل حول الرجل الغني.
2. الخطيئة تعمينا
إن المثل قاسٍ في إشارته إلى التناقضات التي كان الرجل الغني يعيشها؛ فهو، وعلى عكس لعازر المسكين، لا اسم له، ويتم وصفه بالـ “غنيّ” وحسب. ويظهر ترفُه في الثياب الفاخرة التي كان يرتديها. في الواقع كان الأُرجُوان ثمينا للغاية، أكثر من الفضة والذهب، ولذلك كان مخصّصا للآلهة والملوك. أما الكَتَّانَ النَّاعِم فكان نوعًا مميّزًا من الكتان يساهم في إعطاء الملابس طابعًا شبه مقدّس. وبالتالي كان غنى هذا الرجل مبالغ فيه لأنه كان يظهر يوميًّا وبشكل اعتيادي: “ويَتَنَعَّمُ كُلَّ يَومٍ تَنَعُّمًا فاخِرًا”. يمكننا أن نرى من خلاله وبشكل مأساوي، فساد الخطيئة، الذي يتحقّق في ثلاثة أوقات متتالية: حب المال، الغرور والكبرياء.
يقول بولس الرسول إن “حُبّ المالِ أَصْلُ كُلِّ شَرّ” (1 طيم 6، 10). إنّه الدافع الأساسي للفساد ومصدر الحسد، والخلافات والشكوك. يمكن للمال أن يسيطر علينا، لدرجة أنّه قد يصبح وثنًا استبداديًّا (را. الارشاد الرسولي فرح الإنجيل، 55). وبدل من أن يكون أداة في خدمتنا للقيام بأعمال خير وعيش التضامن مع الآخرين، يمكن للمال أن يستعبدنا ويستعبد العالم بأسره في منطق أنانية لا يترك مكانًا للمحبة ويعيق السلام. من ثمَّ، يُظهر لنا المثل أن جشع الغني يجعله مغرورًا؛ وبالتالي تجد شخصيّته تحقيقها في المظاهر وفي إظهاره للآخرين ما يمكنه الحصول عليه. لكن المظاهر تحجب الفراغ الداخلي، وتبقى حياته سجينة المظاهر الخارجيّة والبعد الأكثر سطحية للوجود (را. نفس المرجع، 62). إن الدرجة الأدنى لهذا الانحلال الأخلاقي هي الكبرياء؛ فالرجل الغني يلبس كالملوك ويتصرّف كالآلهة، ناسيًا أنّه مجرد إنسان. وبالنسبة للإنسان الذي أفسده حبّ الغنى لا وجود إلا للـ “أنا”، لذلك لا يرى الأشخاص الذين يحيطون به. وبالتالي فثمرة التعلق بالمال هي نوعٌ من العَمى: فالغنيّ لا يرى الفقير الجائع، المغطّى بالقروح والملقى في ذلّه. بالنظر إلى هذه الشخصيّة، يمكننا أن نفهم لماذا يدين الإنجيلُ حبَّ المال بهذا الوضوح: “ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَين، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر. لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال” (متى 6، 24).
3. الكلمة هي عطية
يساعدنا إنجيل الغنيّ ولعازر المسكين لنستعدَّ جيّدًا لعيد الفصح الذي يقترب. وتدعونا ليتورجية أربعاء الرماد لنعيش خبرة مشابهة لخبرة الغني المأساويّة. عندما يضع الكاهن الرماد على الجبين يردّد الكلمات التالية: “أذكر أنك من تراب وإلى التراب تعود”. في الواقع يموت كلّ من الغني والفقير ويجري الجزء الرئيسي من المثل في الآخرة. وتكتشف الشخصيتان فجأة أننا “لم نَأتِ العالَمِ وَمَعَنا شَيء، ولا نَستَطيعُ أَن نَخرُجَ مِنه ومَعَنا شَيء” (1 طيم 6، 7). وينفتح نظرُنا أيضًا على الحياة بعد الموت، حيث يدور حوار طويل بين الغني وإبراهيم، الذي يدعوه “يا أبتِ” (لو 16، 24. 27)، مبيِّنا انتماءه إلى شعب الله؛ لكنَّ هذه النقطة تجعل حياته أكثر تناقضًا، لأن النصّ لم يذكر حتى الآن شيئًا عن علاقته مع الله. في الواقع، لم يكن هناك مكان لله في حياته، لأنَّ إلهه الوحيد هو نفسه.
لقد تعرّف الغني على لعازر فقط وهو في وسط عذابات الآخرة وأراد أن يخفِّف المسكين من آلامه بالقليل من الماء. إن ما طلبه الغني من لعازار يشبه ما كان باستطاعته أن يقوم به ولكنّه ولم يقم به أبدًا. ومع ذلك يشرح له إبراهيم قائلاً: “يا بُنَيَّ، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ ونالَ لَعاَزرُ البَلايا. أَمَّا اليَومَ فهو ههُنا يُعزَّى وأَنت تُعَذَّب” (آية 25). ففي الآخرة يعود الإنصاف وتُوفى شرور الحياة بالخير. ويتابع المثل مقدمًا رسالة لجميع المسيحيين. في الواقع، سأل الغنيّ إبراهيم أن يرسل لعازر لينذر إخوته الأحياء؛ لكن إبراهيم أجابه: “عندَهُم موسى والأَنبِياء، فَليَستَمِعوا إِلَيهم” (آية 29). وإزاء اعتراض الغني، أضاف: “إِن لم يَستَمِعوا إِلى موسى والأَنبِياء، لا يَقَتَنِعوا ولو قامَ واحِدٌ مِنَ الأَموات” (آية 31). بهذه الطريقة تظهر مشكلة الغني الحقيقية: تكمن جذور شروره في عدم الإصغاء إلى كلمة الله؛ وهذا ما حمله على الابتعاد عن حب الله وبالتالي على ازدراء القريب. كلمة الله هي قوّة حيّة وبإمكانها أن تولّد التوبة في قلوب البشر وأن توجّه الشخص مجدّدًا نحو الله، وبالتالي يُسبب إغلاق القلب على عطيّة الله الذي يكلّمنا إغلاق القلب على عطيّة الأخ.
أيها الإخوة والأخوات الأعزّاء، إنَّ الصوم هو الزمن المناسب لنتجدّد في لقائنا بالمسيح الحيّ في كلمته، والأسرار والقريب. ليدلّنا الرب – الذي انتصر على حيل المجرِّب خلال أربعين يوم في البرية –على الدرب الذي ينبغي إتباعه. وليرشدنا الروح القدس لنقوم بمسيرة توبة حقيقيّة، فنكتشف مجدّدًا عطيّة كلمة الله، ونُطَهَّر من الخطيئة التي تعمينا، ونخدم المسيح الحاضر في الإخوة المعوزين. أُشجّع جميع المؤمنين كي يعبِّروا عن هذا التجدّد الروحي من خلال مشاركتهم أيضًا في حملات الصوم الكبير التي تعزّزها منظمات كنسية عديدة في مختلف أنحاء العالم، كي تنمو ثقافة اللقاء في الأسرة البشرية الواحدة. لنصلِّ من أجل بعضُنا البعض كي نعرف، وإذ نشارك في انتصار المسيح، كيف نفتح أبوابنا للضعيف وللفقير. فنتمكّن هكذا من أن نحيا ونشهد بالكامل لفرح القيامة.
من الفاتيكان، 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، عيد القديس لوقا الإنجيلي.
فرنسيس