Takazart - Pixabay - CC0

كيف يواجه الثنائي تحديات الحياة اليومية؟

واقع الحياة العائلية (2)

Share this Entry
  • تحدّي الواقع

 

تواجه عائلة هذا العصر، تحدّيات جمّة (وعلى مختلف الصّعد)، تطاول حياة الفرد، كما حياة أفراد العائلة، التي تتقاسم معًا الحبّ والشراكة، بالرّغم من كلّ المعوّقات والصعوبات، التي تكوّن واقع العائلة، المضمخ بالأشياء الإيجابيّة والسلبيّة. إنّ الواقع الملموس أو المحسوس لمفاهيم الحبّ ولعيش الحياة الزوجيّة، وتطبيق الأسس الصحيحة لتناغم العائلة، يبقى بحاجة إلى توضيح ومنح الفرص للإضاءة على النّواحي الإيجابيّة والمُفرحة والسّعيدة. تعزّز المفاهيم التعلّق بحالة الحبّ، والعمل على إنجاح الحياة الزوجيّة، وتثبيت مؤسّسة الزواج، كما أرادها الخالق، حالة انسجام وطمأنينة وسلام، وخلقٍ وإبداع على جميع الصّعد.

يتوافق جميع المهتمّون بشؤون العائلة وشجونها، لا سيّما مَن اختبر الحياة الزوجيّة والعائليّة، على أنّ العائلة تقف أمام تحدّيات كثيرة. تتطلّب مسيرتها اليوميّة التمسّك أوّلاً بالحياة الروحيّة، ممّا يعزّز بقاءها متّحدةً ومتماسكةً في حبّها وأمانتها للخالق وللتعاليم السماويّة وللمبادئ والقيم. إنّ التشويه الحاصل في عالمنا اليوم على جميع الصّعد، يحتّم على أفراد العائلة، أن يجعلوا من عائلتهم أرضًا خصبةً لتنامي العطف والمحبّة العميقة والتعاضد وتدعيم الأخلاق الحميدة والسّهر على تحقيق السّلام الحقيقيّ. تتيح تلك الأجواء السليمة والصّحيحة، مواجهة معظم التحدّيات، بطريقة منطقيّة وعلميّة وواقعيّة، مع الاتّكال على الإرادة الحسنة وتفعيل الحسّ الإنسانيّ والمجتمعيّ، من أجل تخطّي لعددٍ أكبر من التحدّيات.

يعلم المجتمع جيّدًا، أنّ خير العائلة ونموّها مصيريّ لمستقبل البشريّة والكنيسة، كما يُدرك أنّ كلّ التحدّيات والمقاربات والدراسات، بيّنت أهميّة العائلة وضرورتها للبشريّة. “لا يمكن لأحد أن يفكّر بأنّ إضعاف العائلة، كمجتمع طبيعيّ قائم على الزواج، هو أمر يعود بالفائدة على المجتمع. بل يُحدث العكس: يُضرّ بنضج الأشخاص، وبثقافة القيم الجماعيّة وبالتقدّم الأخلاقيّ للمدن والقرى”[1]. كشفت تلك الأمور أيضًا، التحدّيات والصعوبات والمشاكل التي تحاصر العائلة ومصيرها. يعاني عصرنا من كثرة الاتّصال والتواصل الاجتماعيّ الجماعيّ فيما يعاني من اضمحلاله وانعدامه تقريبًا بين الرّجل والمرأة ضمن الحياة الزوجيّة والعائليّة.

تتطلّب تحدّيات واقع العائلة في مجتمعنا، ضرورة معرفة تحديدها والتعمّق بها، من أجل مواجهتها بطرق عمليّة وعلميّة. فهل يستطيع ثنائيّ اليوم تمييز تلك التحدّيات؟ هل يملك المعرفة الكاملة لتلك التحدّيات؟ كم هو قادر على الغوص في شكلها ومضمونها؟ هل يتحلّى بالإرادة الحسنة والقدرة العمليّة في مواجهة تلك التحديّات؟ أم تجتاح حالات القنوط واليأس والكآبة، حياته الشخصيّة والعائليّة معًا؟ هل استعدّ كفايةً قبل الغوص في تلك المغامرة؟ هل حظي بمرافقة وبمساندة الآخرين، للتصدّي للواقع واجتراء الحلول والمخارج؟ أم تركَ حياته تتخبّط في اللامبالاة والتسويّات والهرب إلى الأمام؟ هل حظي بمرشدين وأهل اختصاص لمعرفة سُبُل المواجهة؟ أم اتّكل على فطرته وحسّه؟ بالتأكيد، يتوجّب على كلّ ثنائي قرّر أن يحبّ، أن يدرك ويعلم وينتظر تحدّيات حياته الزوجيّة والعائليّة.

  • تحوّلات سريعة

 

نعم، يُدرك شباب اليوم النموّ السكّاني المطرد، لكن نرى في محيط أجواء بعض العائلات، انخفاض نسبة الولادة بشكل واضح وذلك لأسباب مختلفة. التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة والعلائقيّة والاقتصاديّة، وتطوّر المناخات الحياتيّة وظروفها، أدّت إلى تغيّرات كبيرة في عائلة عصرنا، ممّا يصعّب مهمّة تحديد هويّتها وأهدافها ومصيرها. نعم، لقد انحسر دور العائلة اجتماعيًّا، ودينيًّا واقتصاديًّا ووطنيًّا. بدّلت التحوّلات السريعة التي طرأت على العائلة والمفاهيم والمبادئ، التي قامت على أساسها فكرة العائلة ووجودها. فهل يُدرك عالمنا أهميّة العائلة ودورها؟ جعلت التغييرات والتحوّلات، في هذا العصر “المتقلّب” والضائع، من عائلة اليوم، فريسة سهلة الاقتناص ويمكن تحجيم دورها ورسالتها في عالم، يحتاج أكثر من أي وقت مضى، إلى العودة إلى الينابيع والقيم والمفاهيم الصحيحة والمبادئ السليمة.

يدفعنا هذا الواقع الجديد والراهن، إلى التوقّف أمام جملة من التحدّيات، تستدعي قراءة معمّقة، بهدف العمل على استنباط سُبُل ملائمة، من شأنها أن تجدّد العائلة في رسالتها السامية وقضيّتها المقدّسة “لأنسنة” الإنسان من جديد، والمجتمع؛ كما لروحنة قيمه ومبادئه وأفكاره…

يمكننا القول بأنّ التحدّيات التي تواجهها العائلة كثيرة ومتعدّدة: اجتماعيّة، وروحيّة، واقتصاديّة وثقافيّة وعلائقيّة وأخلاقيّة وتربويّة.

تؤكّد الدراسات والمشاهدات الاجتماعيّة، على أنّ التبدّل النموذجيّ العائليّ، أخذ حيّزًا مهمًّا في صورة العائلة وهيكليتها. “هناك تحدٍّ آخر ينبثق من أشكال مختلفة لإيديولوجيّة تسمّى بشكل عامّ “النوع” (Théorie du genre)، التي تنفي الفوارق والتبادل الطبيعيّ بين الرجل والمرأة ]…[ دعونا لا نقع في خطيئة إدّعاء أنّنا نحلّ مكان الخالق. ]…[ نحن مدعوّون إلى الحفاظ على إنسانيّتنا، وهذا يعني قبل أيّ شيءٍ أن نقبلها وأن نحترمها كما خُلِقَت”[2]. تقلّص دور العائلة في مهمتها الاجتماعيّة، حيث انكفأت إلى “داخل” حياتها اليوميّة والعلائقيّة، مكتفيةً في مواجهة أمورها وصعوباتها وتعقيداتها، غافلةً عن اهتمامها بأمور المجتمع وقضاياه، بسبب انهماكها المتواصل في شؤونها. فهي تضغط عليها بسبب سرعة تبدّل الأوضاع الثقافيّة والتربويّة، والاقتصاديّة والعلائقيّة، وسرعة التكنولوجيّا وعالم التواصل والاتصال.

  • ثقافة مستجدة

أفقد هذا الواقع المستجد إمكانيّة بلورة دور العائلة ورسالتها في ظلّ الوضع القائم. يمكننا التوقف عند التبدّل النموذجيّ للعائلة، في ما يتعلّق بعمل المرأة خارج المنزل، ممّا يسبّب لدى البعض منهنّ بعض التراجع في مهمتهنّ التربويّة تجاه الأولاد، كما إلى نقص في الحضور الدائم وبخاصة في قضية الإصغاء إليهم وتلبية حاجاتهم على جميع الأصعدة. من هنا، يواجه الثنائيّ هذا التحدّي الكبير على الصعيد التربويّ والعلائقيّ مع الأبناء. يكمن التحدّي أيضًا في توزيع المهمّات والأدوار المُناطة بالأب والأمّ. زِد على ذلك، تقاسم الأعباء والمسؤوليّات لا سيّما فيما يخصّ، الحضور الفاعل للأولاد، من أجل تربية صحيحة وسليمة، مبنيّة على أُسس متينة، وصلبة، قابلة للتطوّر، والتكيّف مع أوضاع الواقع، من دون الخروج عن المفاهيم والقيم والمبادئ.

من بين التحدّيات في هذا المضمار، متابعة العمل على المساواة بين المرأة والرجل في الكرامة والحقّ وتقاسم المسؤوليّات. ومع هذا تبقى سيطرة وهيمنة الذكوريّة على بعض المجتمعات. من هنا، كان لا بدّ من العمل جدّيًّا، وبالعمق، على تثقيف الأجيال الصاعدة، من أجل خلق وتعزيز ثقافة المساواة والتكامل والتعاون والتعاضد بين الجنسين. ولا ننسى الظلم الذي تتعرّض له النساء، كما العنف الأسريّ المُستشري، والاستغلال لجسد المرأة.

يُظهر الواقع الحالي لمسيرة العائلة حالة من الإرباك، لا سيّما في مجتمع تتفاقم فيه التعقيدات والتحوّلات والتغيّرات على جميع الصُعُد. ذكرنا سابقًا بروز تلك النزعة المادّية التي تتغلغل بقوّة وبسرعة في حياة المجتمع والعائلة معًا. ومن أهم التحدّيّات التي تواجهها العائلة هي النمط الاستهلاكيّ، الذي يغذّي روح التملّك والتعلّق بالمادة، والتفرّد وسيطرة الأنانيّة. هذا يعزّز منطق الاستقواء والتسلّط وحبّ السيطرة والدخول في ثقافة الربح السريع والفاحش. إنّ ثنائيّ اليوم، مدعوّ إلى مواجهة هذا التحدّي الكبير، ألا وهو الاستهلاك المسيطر على ذهنيّة العائلة، بالرغم من وجود أزمات اقتصاديّة، وقلّة فرص العمل، وزيادة المصاريف لتغطية متطلّبات الحياة اليوميّة، ولتأمين أُسس العيش الكريم.

(يتبع)

    الأب د. نجيب بعقليني

أخصائي في راعويّة الزواج والعائلة

 

 

الأب د. نجيب بعقليني

  • يحمل كفاءة في اللاهوت العقائديّ، ودكتورا في اللاّهوت الراعويّ.
  • أخصائي في راعويّة الزواج والعائلة.
  • خدم عدّة رعايا كما عمل في الإدارة التربويّة والتعليم: نائب رئيس الجامعة الأنطونيّة، المدير الماليّ والإداريّ للجامعة الأنطونيّة، مدير الجامعة الأنطونيّة فرع زحلة والبقاع، رئيس مدرسة مار روكز الأنطونيّة رياق، مدير المعهد الأنطونيّ بعبدا (لبنان).
  • عمل في الحقل الراعويّ: إصدار كتب ومقالات، مقابلات وبرامج تلفزيونيّة وإذاعيّة، محاضرات وندوات.
  • صدر له:
  • الطريق إلى الزواج (بالعربيّة والفرنسيّة)
  • حبّ واستمرار
  • كي نبقى معًا
  • لقاء وعهد
  • المرأة والتّنمية
  • الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة (بالعربيّة والفرنسيّة)

 

 

[1]  فرنسيس، الإرشاد الرسوليّ، فرح الحبّ، عدد 52.

[2]  المرجع السابق، عدد 56.

Share this Entry

الأب د. نجيب بعقليني

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير