ولادتك أيتها العذراء أم الله هي الفجر الجديد الذي أعلن الفرح للعالم أجمع، لأن منك ولد شمس البر، المسيح، إلهنا! يعكس عيد ولادة مريم نوره علينا تمامًا كما يشع نور الفجر اللطيف على سهل كولومبيا الواسع، منظر جميل جدًا وفيلافيسينسيو هي مدخله، فضلا عن التنوع الغني لشعوبها الأصلية.
مريم هي الشعاع الأول الذي يعلن نهاية الليل ولا سيما أن النهار قريب. ولادتها تجعلنا نفهم المبادرة المُحبّة والحنونة والشفوقة للمحبة التي من خلالها ينحني الله إلينا ويدعونا لعهد رائع معه لا يمكن لشيء أو لأحد أن يفسخه.
لقد عرفت مريم كيف تكون شفافية نور الله وعكست سناء هذا النور في بيتها الذي قاسمته مع يوسف ويسوع، وفي شعبها أيضًا ووطنها وفي الخليقة ذاك البيت المُشترك للبشريّة بأسرها.
لقد سمعنا في الإنجيل سلسلة نسب يسوع التي ليست مجرّد لائحة أسماء وإنما تاريخ حي، تاريخ شعب سار الله معه إذ صار واحدًا منا أراد أن يعلن لنا أن في دمه يسري تاريخ أبرار وخطأة وأنّ خلاصنا ليس خلاصًا عقيمًا أو خلاصَ مختبر وإنما خلاص ملموس وخلاص حياة تسير. تقول لنا هذه اللائحة الطويلة أننا جزء من تاريخ كبير وتساعدنا لكي لا ندّعي التبوّء المُفرط للمناصب؛ تساعدنا كي نهرب من تجربة الروحانيّة المُراوِغة ولا نبتعد عن الإحداثيات التاريخيّة الملموسة التي ينبغي علينا عيشها. كما تدرج، في تاريخ الخلاص الذي نعيشه، تلك الصفحات المظلمة أو التعيسة وأوقات اليأس والترك التي تُشبه المنفى.
إن ذكر النساء – ولا واحدة من النساء التي تمّ ذكرها في سلسلة النسب تنتمي إلى هرميّة أعظم النساء في العهد القديم – يسمح لنا بقرب خاص: هنَّ، في سلسلة النسب، يُعلنَّ أن هناك دم وثني يجري في دماء يسوع، ويذكِّرنَ بقصص تهميش وخضوع. وفي جماعات حيث لا نزال حتى الآن نجرُّ مواقف ذكوريّة؛ من الجيّد أن نعلن أنَّ الإنجيل يبدأ بتسليط الضوء على نساء رسمنَّ خطًّا مختلفًا وصنعنَّ التاريخ.
وفي وسط هذا كلِّه، يسوع ومريم ويوسف. مريم بالـ”نعم” السخية التي قالتها سمحت لله بأن يأخذ على عاتقه هذا التاريخ. يوسف رجل بار لم يسمح للكبرياء والشغف والحماس بأن يبعدوه خارج هذا النور. من خلال أسلوب الرواية نعرف قبل يوسف ما حدث لمريم وهو يأخذ القرارات مظهرًا ميزته البشريّة قبل أن يساعده الملاك ويتمكن من فهم ما كان يحصل من حوله. يجعله نبل قلبه يُخضِع للمحبة ما تعلّمه من خلال الشريعة؛ واليوم في هذا العالم الذي يظهر فيه العنف النفسي والكلامي والجسدي بوضوح على المرأة، يظهر يوسف بصورة رجل موقور وحنون، والذي بالرغم من عدم امتلاكه لجميع المعلومات اتخذا قرارًا من أجل سمعة مريم وكرامتها وحياتها. وفي شكّه حول كيفية التصرف بالطريقة الأفضل ساعده الله ليختار منيرًا خياره.
إن شعب كولومبيا هذا هو شعب الله؛ وهنا أيضًا يمكننا تعداد سلالات مليئة بالتاريخ، معظمها مفعمة بالحب والنور وغيرها بالنزاعات والإهانات والموت… كم منكم بإمكانهم أن يخبروا خبرات منفى ويأس! كم من النساء، سرنَّ قدمًا وحدهنّ بصمت وكم من الرجال الصالحين حاولوا أن يضعوا جانبًا الضغينة والحقد ليوفِّقوا بين العدالة والصلاح! ماذا علينا أن نفعل لنسمح للنور بالدخول؟ ما هي دروب المصالحة؟ أن نقول “نعم” على مثال مريم للتاريخ بكامله وليس لجزء منه؛ أن نضع جانبًا على مثال يوسف الشغف والكبرياء؛ وأن نأخذ على عاتقنا هذا التاريخ ونعانقه على مثال يسوع المسيح، لأننا هنا جميعنا كولومبيون وهنا نجد ما نحن عليه… وما يمكن لله أن يفعله معنا إن قلنا “نعم” للحقيقة والصلاح والمصالحة. هذا الأمر ممكن فقط إن ملأنا بنور الإنجيل تاريخنا، تاريخ الخطيئة والعنف والنزاع.
إن المصالحة ليست كلمة يجب اعتبارها مجرّدة، لأنها لو كانت هكذا فستحمل العقم فقط، لا بل وتزيد البعد أيضًا. أن نصالح بعضنا البعض يعني أن نفتح الأبواب لجميع الأشخاص الذين عاشوا واقع النزاع المأساوي. عندما يتغلب الضحايا على تجربة الانتقام التي يمكن تفهُّمها، عندما يهزمون تجربة الانتقام التي يمكن تفهُّمها، يصبحون الرواد الأكثر مصداقيّة لعمليات بناء السلام. يجب أن يتحلى البعض منهم بالشجاعة للقيام بالخطوة الأولى في هذا الاتجاه، دون انتظار الآخرين للقيام بذلك. يكفي شخص صالح ليكون هناك رجاء! لا تنسوا: يكفي وجود شخص صالح واحد كي يكون هناك رجاء! ويمكن لكل منا أن يكون هذا الشخص! هذا لا يعني عدم الاعتراف بالاختلافات والنزاعات أو إخفاءها؛ كما ليس تشريعًا للظلم الفردي أو البنيوي. إذ لا يمكن استعمال اللجوء إلى مصالحة ملموسة للتأقلم مع أوضاع الظلم؛ وإنما وكما علّم القديس يوحنا بولس الثاني “إنه لقاء بين إخوة مستعدين لتخطي تجربة الأنانيّة والتخلي عن محاولات عدالة مزيّفة؛ إنها ثمرة مشاعر قوية ونبيلة وسخيّة تقود لإقامة تعايش يقوم على احترام كل فرد والقيم الخاصة بكل مجتمع مدني” (رسالة إلى أساقفة السلفادور، ٦ أغسطس / آب ١٩٨٢). فالمصالحة إذًا تصبح ملموسة وتتقوى من خلال إسهام الجميع وتسمح ببناء المستقبل وتنمّي الرجاء. أما كل مجهود سلام بدون التزام صادق فسيكون مصيره الفشل على الدوام.
يبلغ نص الإنجيل الذي سمعناه ذروته بدعوة يسوع الـ “عمانوئيل” الذي يعني الله معنا. وبالتالي كما يبدأ متى إنجيله ينهيه أيضًا بالطريقة عينها: “هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم” (٢٨، ٢٠). يسوع هو الـ “عمانوئيل” الذي يولد والـ “عمانوئيل” الذي يرافقنا كل يوم؛ هو “الله معنا” الذي يولد والله الذي يسير معنا حتى نهاية العالم. هذا الوعد يتحقّق أيضًا في كولومبيا: فالمطران خيسوس إيميليو خاراميلو مونسالفي، أسقف أراوكا، والكاهن الشهيد الأب ماريا راميريز راموس، من أرميرو، هما علامة لهذا وتعبير لشعب يريد أن يخرج من دوامة العنف والحقد.
في هذا الجو الرائع يتوجب علينا أن نقول “نعم” للمصالحة الملموسة، ولتتضمّن هذه الـ “نعم” طبيعتنا أيضًا. ليس من باب الصدفة أننا قد أطلقنا ضدّها أيضًا شغفنا المتملّك وقلقنا للسيطرة. ينشد أحد أبناء وطنكم هذا الأمر إذ يقول: “الأشجار تبكي وتشهد على سنوات عنف عديدة. وأصبح لون البحر بنيًّا إذ مزج الدم بالتراب” (خوانس، ميناس بيادراس). إن العنف الموجود في القلب البشري المجروح بالخطيئة يظهر أيضًا في عوارض مرض نجده في الأرض والماء والهواء والكائنات الحيّة (را. الرسالة العامة “كُن مُسبّحًا، عدد ٢). يتوجب علينا أن نقول “نعم” على مثال مريم ونتغنى معها بـ “عظائم الرب” لأنه كما وعد آباءنا، هو يساعد جميع الشعوب ويساعد كل شعب، ويساعد اليوم كولومبيا التي تريد أن تتصالح مع نفسها ونسلها إلى الأبد.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2017