إن المثل الإنجيلي الذي سمعناه للتو يحدّثنا عن ملكوت الله وكأنّه وليمة عرس (را. متى 22، 1- 14). والشخصيّة الأساسيّة هو ابن الملك، العريس، الذي من السهل أن نرى فيه يسوع. لكن لا يتمّ التحدّث أبدًا في المثل عن العروس، إنما عن كثير من المدعوّين المرجوّين والمنتظرين: وهم مَن يرتدي لباس العرس. أولئك المدعوّون هم نحن، جميعنا، لأنّ الربّ يرغب “بالاحتفال بالعرس” مع كلّ منّا. العرس يفتتح شركة حياة كاملة: وهذا ما يريد الربّ مع كلّ منّا. علاقتنا به، بالتالي، لا يمكن أن تكون علاقة رعايا الملك الأوفياء، أو الخدّام الأمناء مع ربّ العمل، أو طلاب المدارس المجتهدين مع معلّمهم، إنما، وقبل كلّ شيء، علاقة العروس الحبيبة مع العريس. بعبارة أخرى، إن الربّ يريدنا، ويبحث عنا، ويدعونا، ولا يكتفي بأن نقوم بواجباتنا الصالحة، ونطبّق شرائعه، إنما يريد أن تجمعنا به شركة حياة حقيقيّة، علاقة ترتكز على الحوار والثقة والصفح.
هذه هي الحياة المسيحيّة، قصّة حبّ مع الله، حيث يأخذ الربّ فيها المبادرة مجّانًا، وحيث لا يمكن لأيّ منّا أن يفتخر بحصريّة الدعوة: ما من أحد يتمتّع بأي امتياز مقارنة بالآخرين، لكن كلّ منّا هو مميّز عند الله. ومن أحشاء هذا الحبّ المجّاني، والحنون والمميّز، تولد وتتجدّد على الدوام الحياة المسيحيّة. يمكننا أن نتساءل إن كنّا نعترف بحبّنا للربّ، على الأقل مرّة خلال النهار، إن كنّا نتذكّر أن نقول له كلّ يوم –من بين الكثير من الكلام-: “أحبّك ربّي. أنت حياتي”. لأنّ الحبّ، إن ضاع، تصبح الحياة المسيحيّة عقيمة، تصبح جسدًا بلا روح، وأخلاقيّة مستحيلة، ومجموعة مبادئ وقوانين نجمعها دون أيّ سبب. لكن ربّ الحياة، على العكس، ينتظر إجابة حياة، وربّ المحبّة ينتظر إجابة محبّة. فيما كان يتوجّه لإحدى الكنائس، في سفر الرؤيا، وبّخها توبيخًا دقيقًا: “حُبَّكَ الأَوَّلَ قد تَرَكتَه” (2، 4). هذا هو الخطر: حياة مسيحيّة روتينية، حيث نكتفي بما هو “طبيعي”، دون اندفاع، دون حماسة، وبذاكرة ضعيفة. فلنجدّد، على العكس، ذكرى حبّنا الأوّل: إنّنا المحبوبون، والمدعوّون إلى العرس، وحياتنا هي هبة، لأن كلّ يوم هو فرصة رائعة للإجابة على الدعوة.
أما الإنجيل فيحذّرنا: لأنه بإمكاننا أن نرفض الدعوة. فالكثير من المدعوّين قالوا كلّا، لأنهم كانوا مأخوذين بمصالحهم: “لم يُبالوا، فَمِنهُم مَن ذَهبَ إِلى حَقلِه، ومِنهُم مَن ذَهبَ إِلى تِجارتِه” يقول النص (متى 22، 5). غالبًا ما يعود في هذا النصّ الضمير المتّصل (الذي يعبّر عمّا هو خاصّ: حقله، تجارته)؛ وهذا ما يسمح بفهم أسباب الرفض. لم يظنّ المدعوّون أن العرس حزين أو مُملّ، لكن وبكلّ بساطة “لا يهمّهم”: كانوا منصرفين إلى مصالحهم، يفضّلون امتلاك الأشياء بدل المخاطرة التي تستلزمها المحبّة. وبهذه الطريقة يتمّ الابتعاد عن المحبّة، ليس عن طريق الخبث، إنما لأنّنا نفضّل أمورنا الخاصة: الضمانات، تأكيد الذات، الراحة… فنسترخي بالتالي على كراسي الربح والملذّات وبعض الهوايات التي تبهج بعض الشيء، ولكننا بهذه الطريقة نشيخ مبكرًا وبشكل سيّء، لأنّنا نشيخ في داخلنا: فالقلب، عندما لا يتوسّع، ينغلق، يشيخ. وعندما يعتمد كلُّ شيء على الـ “أنا” –كلّ ما يناسبني، كلّ ما أحتاجه، كلّ ما أريد- نصبح صارمين وأشرار، ونتفاعل بشكل سيّء لأيّ سبب، مثل المدعوين في الإنجيل، الذين توصّلوا إلى إهانة حاملي الدعوة إليهم وحتى قتلهم (را. آية 6)، فقط لأنّهم يزعجونهم.
يسألنا الإنجيل بالتالي من أيّة جهة نريد أن نكون: من جهة الـ “أنا” أم من جهة الله؟ لأن الله هو عكس الأنانية، والمرجعية الذاتية. فإزاء الرفض المتواصل الذي يتلقاه –يقول لنا الإنجيل-، وإزاء انغلاق المدعوّين على دعواته، هو يمضي قدمًا، ولا يؤجّل الحفل. لا يستسلم، بل يستمرّ بالدعوة. لا يغلق الباب إزاء الـ “لا”، بل يشمل المزيد من المدعوّين. الله، إزاء الظلم الذي يطاله، يجيب بمحبّة أكبر. أمّا نحن، عندما تجرحنا الأخطاء والرفض، فنكنّ الحقد وعدم الامتنان. لكنّ الله، فيما يتألّم من رفضنا، يستمرّ في المقابل بدعواته، ويمضي قدمًا في تحضيره الخير أيضًا لمن يصنع الشرّ. لأن المحبّة هي هكذا، المحبة تتصرّف بهذه الطريقة؛ لأنه بهذه الطريقة فقط يتمّ التغلّب على الشرّ. إن هذا الإله الذي لا يفقد الرجاء أبدًا، يدعونا اليوم كي نتصرّف على غراره، ونحيا بحسب المحبّة الحقيقيّة، ونتخطّى الاستسلام وأهواء الـ “أنا” السريع الغضب والكسول.
هناك جانب أخير يشدّد عليه الإنجيل: لباس العرس، الذي لا غنى عنه. فلا يكفي أن نجيب مرّة على الدعوة، وأن نقول “نعم” فقط، إنما يجب أن نلبس حلّة العرس، يجب الاعتياد على عيش المحبّة كلّ يوم. لأنه لا يمكننا أن نقول: “يا ربّ، يا ربّ” دون أن نحيا ونتمّم مشيئة الله (را. متى 7، 21). إننا بحاجة إلى أن نلبس محبّته مجدّدًا كلّ يوم، وأن نجدّد يوميًّا اختيارنا لله. قدّيسو اليوم، والكثير من الشهداء، يدلّونا على هذه الطريق. لم يقولوا “نعم” للمحبّة بالكلام ولفترة من الوقت، إنما بحياتهم وحتى النهاية. حلّتهم اليومية كانت محبّة يسوع، تلك المحبّة المجنونة التي أحبّتنا حتى النهاية، والتي تركت مغفرتها وثوبها لمَن كان يصلبها. لقد نلنا نحن أيضًا، في معموديّتنا، الحلّة البيضاء، حلّة العرس للقيام أمام الله. لنسأله، بشفاعة أخواتنا وإخوتنا القدّيسين هؤلاء، نعمة اختيار هذا الثوب كلّ يوم ولبسه، والإبقاء عليه نظيفًا. وكيف نفعل هذا؟ قبل كلّ شيء، بالذهاب للحصول على صفح الربّ دون خوف: إنها الخطوة الحاسمة للدخول في صالة العرس والاحتفال بعيد المحبّة معه.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2017