محيّر هو موضوعُ المقال فعلا! كيف أنّ ميلاد المسيح كشفَ لي سرّ وحقيقة الخلق ومعنى الحبّ؟! هذا ما عوّدنا عليه يسوع المسيح في أثناء حياته كلّها على الأرض ومن خلال كلماته وأفعاله. لكنّنا هنا في ولادة يسوع وليس في حياته العلنيّة!! فكيفَ ليسوع هنا، وهو ما زالَ طفلا صغيرًا، أن يخلقُ هذه الحيرة في العالم! الجوابُ بسيطٌ جدّا: الله الآب هو منْ خلق هذا التعجّب وهذه الحيرة فينا.
علاماتُ مجيئه رائعة. الأقوالُ التي سمعناها من الملاك مبهجةٌ. الحوادث كلّها تقولُ ذلك. دهشةُ البتول مريم والقديس يوسف والرعاةُ والمجوس. هزّت العالمُ والتاريخ ولادة يسوع في مغارة. وبدأ عالمٌ جديد ٍ يظهرُ يمحي عالمًا قديمًا ويُزيله. إنه تاريخٌ جديدٌ يظهرُ من عمل الله ذاته وليس من يد ِ بشر وعلوم وأساطيرَ. لا يستطيعُ علم أن يحيطَ بحدثٍ رائع كحدث ولادة المسيح في بيت لحمْ! لأنه سيقفُ عاجزًا عن الفهم ِ والإدراك، وسيُقيس كلّ شيء بحسب مقاييسَ نظريّة ورياضيّة وبرهانيّة صرفْ، فهذا هو مجاله. فلا يمكنُ أن نـــُدخِل مواضيعًا لاهوتيّة وروحيّة في مجالات ٍ علميّة ورياضيّة صرف، فلكلا العلمَين مجاليهما وبحثهِما. لكن، لا يمكننا التوقّف هنا وغلق الموضوع وكفى!. فولادة المسيح تدخل أوّلا، في مجال ٍ إنسانيّ تاريخيّ حقيقيّ، إنسانــا من لحم ودم جاءَ من رحم البتول مريم. وثانيًا، وهذا هو المهمّ في ألموضوع، هو أنّ ولادته تختلف، في دلالاتها ومعانيها وجوهرها عن باقي الولادات البشريّة الصرف الأخرى التي حصلتْ في التاريخ … ولادة المسيح تدخلُ في ما نسمّيه ويسمّيه الإنجيل ” ملء الزمان !”… ما هو هذا التعبير الذي كثيرًا ما نسأله اليوم؟!
كيفَ لـــولادة المسيح أن تــــفهِمَني معنى وسرّ الخلق والحبّ، وما هو ملءُ الزمان؟!
ولادة المسيح، تكشف لنا سرّ إله متحمّس لمخلوقاته لتكوين علاقة واتحاد. ولهذا، التعليم الكتابيّ والكنسيّ والتقليد، يسمّي سرّ ميلاد المسيح، بسرّ التجسّد. فالميلاد والتجسّد سرٌّ واحدٌ . ميلاد الخليقة من جديد بقوّة الروح، هذا الروح ذاته، الذي يعمل في المادّة والواقع والإنسان والكون، هو الذي يُجسّد حقيقة كون المادّة ، بالنسبة لله ، هي كاشفة لسرّ جديد . وليست المادّة، كما تقول بعض المذاهب الثنائيّة، شرٌّ وفساد .. بل هي مقدّسة لإنها من الله . والله استعملها في تجديد الخلق . كيف نصف ما خلقه الله بالفساد والدناءة ؟! العالم العصريّ، قد لا يتحمّل أن يرى المادّة معجونة بالألوهة لإن هذا ، في نظره، مناف لحقيقة الله المطلقة . لكن، إلهنا قادرٌ على أن يكون بسيطًا جدا، وهو، بما أنّ المادّة هي منه، وله، وإليه، قادرٌ أن يتجسّد بطريقته هو، فيها من دون أن يفقد ألوهيّته وجوهريّته، لا بل رفع المادّة إلى العلى وأقامها في المجد.
” الحَبل بيسوع هو خلقٌ جديد، لا إنجابٌ من الله ” (جوزيف راتزنغر). قولُ البابا بنديكتوس السادس عشر هذا، يستحق الوقوف أمامه والتأمّل في معانيه. قد يكونُ معنى الكلام أعلاه عسيرًا للفهم، لأن فيه لاهوت وفلسفة، ولربّما يصفه الكثيرون بالـــ” سفسطة “!…. لكن، نحتاجُ قليلا للصبر والتعبْ والدخول في منطق الله من خلال خبرة يسوع و الرسل في الإنجيل.
علينا هنا أن نفهمَ ماذا يعني الحبل البتوليّ بيسوع. فالحبل بيسوع هو سرُّ واقعيّ. سرّ لا بدَ لنا من تقبّله والتأمّل به، متّخذين موقف الطاعة والإيمان، ومقتنعينَ بعقلانيّة هذا السرّ أنه لا شيء يعسِرُ على الله، هذا الذي خلقَ العقل والدماغَ والعلمَ والمادة، كيفَ لنا أن نبعِدَه عن العالم، وعن واقع ِ كشفه لأمور، لا يريدُ العالمَ أن يمسّها بطرف أصبعه ولو قليلا، فهو يظل مطبّلا بدفّ المنطق الرياضيّ والتجريبيّ، وبأنّ كلّ ما لا يمتّ للعلم والتحليل والإختبار والبرهان عليه، فهو من قبيل الوهم والخرافات وأحلام المؤمن !
الله دخل التاريخ ولا زال. هذا أمرٌ لا ريبَ فيه أبدًا، إذ قامَ بعمل جبّار ولا زال. ليذكّر الإنسان أنه المثلّث الأقانيم وهو سيّد التاريخ ومحوره الذي يعطيه المعنى والعطرَ النقيّ. فجاءَ لتعديل الخليقة وليس لقلبها وخرق قانونها!. بدون إيمان ٍ راشد (إيمان مع واقعية وعقلانيّة وحكمة)، لا يتمكّن الفكرُ من إدراك تعبير “ الحبل البتولي بيسوع، وبأمومة مريم “. صدق القديس اغناطيوس الأنطاكي الذي قال : ” قد جهل رئيسُ هذا العالم بتوليّة مريم، وولادتها يسوع، وكذلك موت الربّ: أسرارٌ ثلاثة حصلت في صمت الله”. ماذا يريد الله أن يقول لنا من خلال هذه العلامة الحبل البتوليّ؟
على مرّ العصور، تأمّلت الكنيسة بإستمرار في مغزى هذا الحدث المدهش. إنه بحدّ ذاته إشارة إلى الأمر الجديد: الفداء. في أفق إستمراريّة خليقته، يستهلّ الله فترة إنقطاع جذريّ للإستمراريّة، هي مجرّد بداية جديدة، تشير إلى حلول زمن تجديد الخليقة، زمن ملكوته. ونحن نعرف، وأدركنا، أنّ خلق الله هو مستمرٌ ودائميّ ومدهش دائما، فلا توقّف عند الله.
يقولُ البابا بنديكتوس السادس عشر: ” كلامُ الله، روحُه، يخلقُ فيها الصبيّ، يخلقه من خلال باب ِ طاعتها. هكذا يسوع هو آدم الجديد، بداية جديدة للعذراء التي هي كليّا في تصرّف إرادة الله. بهذه الطريقة حصلت خليقةٌ جديدة، ترتبطُ مع ذلك بالــ ” نعم ” الحرّة الصادرة من شخص مريم البشريّ. لربّما نستطيعُ القول، إنّ أحلام البشريّة السريّة والغامضة حول بداية ٍ جديدة، قد تحقّقت في هذا المجيء – في حقيقة يستطيعُ الله وحده خلـــــقَها”. (يسوع الناصريّ الجزء الثالث : طفولة يسوع ص 69). سرّ الخلقَ الإلهي لا يمكننا أن نصفه بشيء إلا أنه سرّ الحبّ الإلهيّ الذي من فيضه نلنا بأجمعنا. إنه سرّ الحب المجانيّ والشموليّ للعالمْ ـ أراد أن يشركنا في محبّته وفي كيانه فوضع فينا صورته الإلهيّة كي نشتاق دائمًا له، وأن نكونَ كمثاله. ويسوع الناصريّ، الذي ظهرَ من رحم العذراء مريم، بقوة الكلمة ذاتها، هو ذاته والكلمة واحدًا، إبنـــًا أزليا، أتخذ جسدًا شبيهًا بنا في كلّ شيء، كي يشاركنا الله في إنسانيّتنا. لكي يخلقنا دائمًا بابنه ويُجدّدنا ويجعلنا خلّاقين. يتبع (ملء الزمان)