بالرغم من كبر موضوع ” التجارب “، وبالرغم من أنّ علماء الكتاب المقدّس واللاهوتيين، وآباء الكنيسة تكلّموا بإسهاب حول هذا الموضوع، ونظرًا لضيق وقتنا، سوف لن نضع كلّ ما ذكروه العلماء واللاهوتيين والآباء إلا مختصرًا.
هناك صلة ً مضاعفة بين رواية العماد ورواية التجارب( راجع متى 4 : 1 – 11) : أوّلا، الروحُ الذي نزل من السماوات، هو قادَ يسوع نحو التجربة تي تدخلُ بالتالي في مقاصد الله؛ ومن ثمّ تبدأ التجربتان الأوليّتان بهذه الكلمات : ” إن كنت ابن الله”. وهكذا يكونُ يسوع قد امتــــُحن، كي يكون على يقين من القوّة الكامنة في البنوّة الإلهيّة التي كشفت إبان العماد.
إن نزول الروح القدس على يسوع، الذي يُسدل الستار على مشهد الإعتماد، يشكّل نوعًا من تكليف ٍ رسميّ لرسالته الماسيويّة. لذا، رأي الآباء، في هذا الحدث، وعن طريق القياس، المسحة التي كان الملوك والكهنة يكلّفون بواسطتها رسميّا بوظائفهم. فعبارة الماسيّا المسيح المنتظَر تعني ” الممسوح “: ففي العهد القديم كانت المسحة تُعدّ العلامة المرئية لمنح الهبات المطلوبة للوظيفة، لهبة روح الله للقيام بالمهمة. إنطلاقا من هذا المعنى، يتوسع أشعيا في الكلام على الرجاء ” بمسيح ” تكمن مسحته بالضبط في أن روح الله يستقرّ عليه : روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح المعرفة وخوف الرب ( أش 11 : 2 ). من تلك اللحظة فصاعدًا، كُــــلّف المسيح بالقيام بتلك الرسالة. وتروي الأناجيل الإزائيّة الثلاثة، على دهشة منا، أنّ أوّل عمل قام به الروح القدس كان أن قاده إلى الصحراء ” ليُجرّب من الشيطان “. وسبق التجربة مرحلة تأمّل، كان لا بدّ أن يتخللها صراعٌ داخليّ من أجل تتميم الرسالة وصراع ضد طرق تشويهها. لا بدّ من الخضوع للمحن، فهكذا فقط يمكنُ أن ينتصر الإنسان بعد سقوطه.
يقولُ الأب الدومنيكانيّ الفرنسيّ ماري إميل بوامار (اختصاصي ذو شهرة عالميّة في علوم الكتاب المقدّس): إن الإنجيليّ مرقس يكتفي بالقول، إنّ يسوعَ ” دُفِعَ” إلى البرية ليجرّبه الشيطان، ولكنّه لا يعطي أيّ تفصيـــــل عن الطريقة التي استخدمها الشيطان ليجرّبه. أمّا متى الإنجيليّ 4 : 1 – 11، ولوقا 4 : 1 -13، فقد كانا أكثرَ وضوحًا. هناك إتفاقٌ بين المفسّرين على كون هذه الإضافة الخطابيّة بين يسوع وإبليس، والمليئة بالإستشهادات من العهد القديم، مصطنعةٌ. إلاّ أنّ التقليد الذي نقله هنا الإنجيليّان يعكسُ ولا شكّ وضعــــا حقيقيّا. ويقول المفسر البيبلي الفرنسيّ أيضا كلود تاسان- في شرحه لإنجيل متى- ، أنه إذا كان هذا المشهدُ رمزيــــــّا، فهو، مع ذلك، ليس من قبيل المخيّلة. وبالفعل، فإنّ الأمر: ” اذهب يا شيطانّ!” ينبئ بعبارة : ” انسحبْ ورائي ! ياشيطان” التي توجهت إلى بطرس. فالتلميذ، حين يدعو يسوع إلى تجنّب الإستشهاد، يصبحُ مُجــــرّبا (بكسر الراء)، أي سبب عثرة. ولَكَم تلقّى يسوعُ ولاشكّ، من أصدقاء ومعارضين، تحريضا على استخدام القوّة الإلهيّة التي تسكنه، لصالحه! وهكذا، على عتبة رسالته، يعكس مشهدَ البريّة الإنتصارَ الحاسم على مثل هذه التحريضات. ويعطينا المفسرون للآية التي تقولُ : إنّ يسوع كان مع الوحوش” تفسيرًا رائعـــا : يقول الأب ماري بوامار، إن مرقس الإنجيليّ يختمُ بالقول: إنّ يسوع كان مع الوحوش، وهذه الوحوش هي رمز لكلّ قوى الشرّ. وقد غلبها يسوع طالما أنه استطاع العيش معها في سلام. ذلك هو تحقيق للعالم الجديد الذي سيأتي المسيح ليفتتحه على الأرض، بعد أن يكون قد لبس قوّة الروح.
يقول البابا بنديكتوس السادس عشر، إنّ مرقسَ، في روايته المختصرة عن التجارب (1 / 13)، قد أبرزَ، بالمقابلة مع آدم، القـــبول للمأســــاة الإنسانيّة. كان ” يسوع يعيش في وسط الحيوانات البريّة والملائكةُ تخدمه”. وتصبح الصحراء- الصورة العكسيّة لصورة البستان- مكانا للمصالحة وللسلام؛ فالحيوانات البريّة، التي تجسّد الشكلَ الأكثر واقعيّة للتهديد الذي يشكّله تمرّد الخليقة وقدرة الموت، تصبح صديقة كما في الجنة. ويقول أيضا: ” أليست واحاتُ الخليقة، مثلا، التي أزهرت حول أديرة الآباء البندكتيين في الغرب، تجسيدًا لمصالحة الخليقة هذه، التي يقومُ بها أبناء الله؟ وبالعكس تماما، أليس” تشرنوبيل”، مثلا، تعبيرًا مقلقا عن الخليقة المستعبدة الغارقة في ظلمة الله؟
إنّ طبيعة التجربة تشتملُ أيضا على سلوك أخلاقيّ. إنها لا تدعونا مباشرة إلى إقتراف الشرّ، بل تدّعي أنها ترشدنا إلى الأفضل، فنتخلّى أخيرًا عن الأوهام ونستعمل بفعاليّة قوانا لتحسين العالم. وتظهرُ أيضا في إدّعائها الحقيقة الواقعيّة. فالحقيقة في نظرها هي ما يظهرُ في الواقع: السلطة والخبز. وبالمقابل تبدو أمور الله وكأنــــــها غيرُ واقعيّة، أو عالـــــمًا ثانويــــّا لا نحتاج إليه.
إن الله هو المطلوب. أليس هو الحقيقيّ، والحقيقة ذاتها؟ هل هو الخير، أم يتوجّب علينا إيجاد ما هو خير؟ إن مسألة الله هي المسألة الجوهريّة، التي تضعنا على مفترق طرق الوجود الإنسانيّ. ماذا ينبغي لمخلص العالم أن يفعله، أو أن يحجمَ على فعله؟ تلك هي المسألة التي تتضمّنها تجارب يسوع.
يتبع