التجربة الآولى تستندُ إلى بنوّة يسوع الإلهيّة، وهي التي أعلنها الآب عند اعتماد يسوع. فيقترح إبليس على يسوع أن يستغلّ تلك البنوّة ويستخدمُ قدرته العجائبيّة للتخلّص من جوع الناس وبؤسهم. وهذا طبعا ما رفضه يسوع، لأنه لا يريدُ أن يُجريَ معجزة لمنفعته.
من حجارة إلى خبز. إنها تجربةُ الشراهة الآولى التي أسَرَت آدم الأوّل. يقولُ الإنجيليّان مرقس ولوقا: ” إنّ إبليسَ جرّب يسوع أربعينَ يومًا”. واضحٌ أنّ إبليسَ كان يجرّبه في أثناء تلك الأيّام، عن بُعدٍ، بالنعاس، والتهاون، والجبن، وبغيرها من الخطايا. فلّـــما عرفَ أنّ المسيح جاعَ، دنا منه وفاجأه علانيّة. أنظر إلى ما فعله، كان قد سمعَ من يوحنّا ومن الصوت الذي أتى من علُ أنّ” هذا الرجل هو ابن الله”. لمْ يعرف أنّ ” ابن الله” صارَ بشرًا، لأنّ الله أخفى عنه تجسّده الفائق الوصف. ظنّ أنّ الله رضيَ عن المسيح لفضائله. حسده على هذه الكرامة كما حسدَ آدمَ القديم. كان يتلهّف لإلقائه في هوّة، تماما كما ألقى آدم الاوّل. يقتربُ الشيطانَ من يسوع ويشرعُ في تجربته الآولى، وهي تجربةُ ” الجوع – الشراهة ، البطن”، التي أسرَ بها آدمَ الأوّل. ولعَدَم ِ وجود طعام في البرية .. أمره بأن يصنعَ من الحجر خُبزا. يقولُ أوريجانوس، أنظر إلى خداع إبليس وشره العظيم – حاولَ أن يُبعِدَ المسيح عن معرفة خطّته. لم يقلْ : ” صيّر الحجر خبزًا “، بل افتتح كلامه بقوله : ” إنْ كنتَ ابن الله “. فعل هذا مُظهرا أنه بإتمام ِ هذا العمل، يُبرهن المسيح أنه ابن الله. كان يظنُّ أنّ المسيح سينزعجُ إذا لم يقل إنه ” ابن الله “. ظنّ أنّ المسيح لن يُدرك الخِدعــــــة فيُصيّر الحَجر خبزا، لأنه رجلٌ ذو قدرة من لدن الله. وعندما يرى الخبزَ وهو جائعٌ، سيُذعن لمعدته. لكنّ إبليسَ لم يفلت من تيقّظ مَن ” يُمسِك الحكماء بدهائهم” (1 كورنتوس 3 : 19)، أجابَ المسيح ” يقولُ الكتابُ: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”. أدركَ أحابيلَ الشيطان، فلم يُجر الآية التي طلبها إبليس. إنه كان يُجري الآيات ليساعد الذين يرونها.
يقولُ القديس كروماتيوس: ” يستفزّ إبليس يسوع ليوقعه في التجربة، والربّ يتابعُ ذلك لينتصرَ عليه. فالمعركة حول هذه التجربة قائمة، كما يقول إبليس للربّ : إنْ كنت ابن الله … “. لمّا كان جاهلا سرّ التدبير الإلهيّ، وضعَ ما لا يعرفه كسؤال. وبصوت المشكّك يستجوب المسيح ويقولُ:” إن كنت ابن الله .. “. ويقول القديس يوحنا فمُ الذهب : ” لم يقلْ الشيطان ليسوع، لأنّك جائعٌ، بل ” إن كنتَ ابن الله فحوّل الحجارة إلى خبز !. ظانّا أنه يخدعه بتـــملّقه . لهذا، كان إبليسُ صامتا في شأن جوعه، لكي لا يظهر أنه يُجلّ شأنه، بل يُعيّره. بما أنه جهلَ عظمة التدبير الإلهيّ الحاصل (ربّما نستطيعُ أن نرى في عالمنا المعاصر اليوم، أنّ كلّ مَن لا يدركُ سرّ التدبير الإلهيّ، يجعل من الله صنمًا، فيقومُ بتجربته أيضا، وبهذا يقومُ العالم بإتّهام الله دائمًا، أو بإبعاده عنّا).
يقولُ القديس كيرلّس الاسكندريّ :” خطّط إبليس أن يوقعَ المسيح في هوى المجد الباطل،لذا لم يقلْ له ” كُلْ” بل ” اصنع آية “. فعل هذا لا لمنفعة المسيح، بل ليُجرّه إلى المجد الباطل. لكنّ المسيح كان عالِمًا بذلك فلم يُطعه. وهو لم يمتثل لطلب الفريسيين من بعد، لمّا أرادوا أن يروا آية ً منه. فهم لم يقتربوا كأنهم يقتربون من الله، بل كانوا يُجرّبونه كإنسان. فليكن ذلك قانونا ثابتـــــا عند القدّيسين بحيث إنهم لا يتفاخرونَ أمام غير المؤمنين تحت ستار المنفعة.
نستطيعُ أن نرى في تجربة يسوع الآولى، الشيطان يقولُ له ” حوّل ” هذه الحجارة إلى خبز . انت جائعٌ. ولا حاجة لكلّ هذا التعبْ في حياتك. إنها تجربة يقع فيها العالم اليوم، يمكنُ ان نسمّيها ” تجربة السهولة “، الحياة السهلة، المال السهل. الحياة الرخيصة. الكسل الوجوديّ. الخبز السهل. أستطيعُ أن أحوّل الحجر إلى خبز من دون أن أحصد ولا أن أزرع ولا أن أتعب. ممكن أن أقوم بالسرقة والظلم والتعدّي لكي أحصل على خبز، وهذا هو تاريخ الحضارات والغزوات. وكأنّ يسوع يقولُ: قف! بعرق ِ جبينك تأكلُ خبزكْ. تجربة تحويل الحجر إلى خبز، هي تجربة ” اللذّة الرخيصة”. إنها تطــــــرّف اللذّة. “
” إن كنت ابن الله، فمرّ أن تصير هذه الحجارة خبزا … “، هكذا تبدأ التجربة الأولى. سوف نسمعُ هذه الكلمات مرّة أخرى تتكرّر، لكن بطريقة أخرى: فوق الصليبْ. نسمعها من الذين سوف يسخرون من يسوع. ” إن كنت ابن الله، فانزل عن الصليبْ … !”(متى 27 : 40). كان سفرُ الحكمة قد أورد شيئا من هذا : ” فإن كان البارّ ابن الله فهو ينصره وينقذه من أيدي مقاوميه ” (حكمة 2 : 18). وهنا تســـير السخريّة والتجربة متوازيتين: على المسيح أن يُبرهِن عمّا يدّعي أنه هو، ليصيرَ قابلا للتصديق (هذا نراهُ أيضا في واقعنا المعاصر اليوم، عندما يريدُ أحدًا ما المناقشة والمناظرة معنا بخصوص شخص المسيح!). إنّ طلب الإثبات هذا سيلاحقه طوال مسيرة حياته؛ إذ تنهالُ عليه باستمرار تهمة عدم تبرير ذاته بما يكفي من الوضوح: كان عليه أن يصنع الاعجوبة العظيمة التي يمكنها – بإزالتها كلّ غموض وكلّ تناقض – أن تبرهن للجميع، بطريقة ٍ غير قابلة للنقاش، من هو، وما هو أو ما ليس هو. يقولُ بنديكتس السادس عشر: نحنُ أيضا نتوجه إلى الله بهذا الطلبْ، وإلى المسيح، وإلى كنيسته على إمتداد التاريخ: إذا كنت، يا الله، حقا موجودًا، ينبغي لك أن تُظهِر نفسك. إذا، يجبُ أن تمزّق الغيمة التي تحجبك وتتجلّى لنا؛ فهذا من حقّنا. إذا كنت، أيها المسيح، حقا الابن وليس أحد المهووسين الذين ظهروا بإستمرار في التاريخ، فيجبُ إذا أن تُظهِر نفسك بوضوح ٍ أكبر، كما لم تفعل من قبل. لذا، ينبغي لك أن تعطي كنيستك، إذا كانت هي حقا خاصّتك، قدرًا من الوضوح يختلفُ عمّا تنعم به حاليّا.
هناك روايتان عن الخبز في حياة يسوع. أولاهما تتعلّق بتكثير الأرغفة وإطعام آلاف الناس الذين تبعوا يسوع إلى القفر. فلماذا تمّم يسوعُ هنا عملا رُفض في السابق كــتجربة؟ لقد تبع الناس يسوع، ولحقوا به لسماع كلمة الله، ومن أجل ذلك تخلّوا عن كلّ شيء. وبما أنّهم فتحوا قلوبهم لله وبعضهم لبعض، استحقّوا الحصول على الخبز.
هذه الإعجوبة تفترض ثلاث عناصر: أولها طلب الله وكلمته، وتوجيه الحياة التوجيه الصحيح. ثمّ إنّ الخبز مطلوبٌ من الله، بالإضافة إلى ذلك، فإنّ جهوزيـــــة الإقتسام المتبادلة تشكّل عنصرًأ أساسيّا في الاعجوبة، والإصغاء إلى الله يتحوّل إلى حياة معه، ويقودُ الإيمان والحب، وإلى إكتشاف الآخر. فيسوع ليس غير مبال ٍ بجوع الناس وبحاجاتهم الماديّة، غير أنه يضعها في سياقها الصحيح ويمنحها المرتبة التي تستحقّها. نرى أنّ إبليس في التجرية يعملُ العكس، هناكَ إنحرافٌ عن الجهوزية المركزية التي هي الله، بإتجاه آخر، تيهانٌ عن سماع الله وكلمته، والتحويل من حياة إلهيّة إلى حياة بشريّة بحته، ويقاد حينها الإنسانُ، لا إلى الإيمان والحبّ، بل إلى التشرذم والكرة، وبدلا من إكتشاف الآخر، هناك تقوقعٌ وإنغلاقيّة. وبهذا، يقودنا الشيطان إلى مكان ٍ لا نستحقه ولا يليق بأبناء الله.
إنّ مساعدات دول الغرب للدول النامية، لأنها ارتكزت كليا على مبادئ تقنيّة وماديّة صرف، ولم تكتف ِ بأن وضعت الله جانبــــــا، بل أبعدت الناس عنه بما أدّعته من معرفة بكبريائها، جعلت من العالم الثالث عالمًا ثالثا بالمعنى العصريّ. إنّ مثل هذه المساعدات قد أقصتْ البنى التحتيّة والأخلاقيّة والإجتماعيّة الموجودة، فأوقعت ذهنيّتها التقنيّة في الفراغ الذي أوجدته.
قد يتساءل المرء: لماذا لم يخلق الله عالمًا يظهر فيه حضوره بشكل ٍ أجلى؟ ولماذا لم يخلّف المسيح وراءه بهاءً آخر من حضوره، يؤثّر في كلّ إنسان بطريقة لا تقاوم؟ إنه سرّ الله مع الإنسان، ونحنُ لا نستطيع فهمه. إننا نعيش في عالم حيث وجود الله غير قابل للمس؛ لكن، يمكن التفتيش عنه وإيجاده بتوثّب القلب فقط، كما في ” الخروج من مصر “. في هذا العالم، ينبغي لنا أن نقاومَ أوهام الفلسفات الخاطئة، ونتيقّن من أننا لا نعيش بالخبز وحده، ولكن، بالطاعة لكلمة الله. فحيث يحيا الناس في هذه الطاعة، تولدُ فقط وتكبر المشاعر التي تسمحُ أيضا بالحصول على الخبز للجميع.