Robert Cheaib - Theologhia.com

سرّ الصليبْ … أداةَ إعدام ولاهوتٌ يتحرّك

الجزء الثاني من سلسلة مقالات الصليب

Share this Entry

تشيرُ أصول كلمة صليب ( crux باللاتينيّة ، stauros باليونانيّة) إلى خشبة عموديــــّة (وحتى شجرة) يُـــعلّق عليها إنسان ويُسمّر. وتدريجيّا نالَ الصليبْ الشكلَ الذي نعرفه. يُغرَس القسم العموديّ بالأرض بشكل ٍ دائم. وحين يصل المحكوم عليهم إلى مكان الإعدام، يُربَطون أوّلا إلى الجزء الأفقيّ ويُسمّى Patibulum الذي يجرّونه غالبًا من مكان الإدانة، كما هو الحال مع يسوع. ثمّ يُجمَع القسمان بشكل T ، أو بالشكل الذي نسمّيه اليوم  الصليب اللاتينيّ وله أطراف أربعة (crus immissa أو capitata). ولا تدقّ المسامير في راحات الأيدي لأنها ستتمزّق، بل عند المعاصم. والقدمان الواحدة فوق الأخرى ومسمار طويل يخترقهما. بوجه ٍ عامّ، يتمّ الموت بعد زمن ٍ طويل. إنه لا يحدث  بسبب الجروح بل بالإختناق. الجسد يُسحَبُ بسبب ثقله، وعلى المحكوم عليه أن يبذل الجهد ليستقيم. وسرعانَ ما يصير الوضع لا يُطاق، فيسقط المسكين ويختنق.

النزاعُ طويلٌ وبشع. وقد صمدّ بعض  الستّة آلاف مصلوب ٍ في ثورة سبارتاكوس عدّة أيّام.  يقول جان فرنسوا بودوز : ” بحسب شهادة الإنجيل، كان موت يسوع سريعًا بوجهٍ خاصّ. كان المُجرمان اللذان أحاطا به لا يزالان حيّين عند غروب الشمس، ولذلك كسرَ الجنودُ الرومانيّون سيقانهما. فبحسب تثنية 21 : 22 ، لا ينبغي للمحكوم عليه أن يقضي الليلَ على الخشبة. وكسر السيقان يسرّع الإختناق، ويبدو أحيانا إجراء رحمة لأنه يختصرُ آلام المحكوم عليه.

إنّ غاية هذا العرض السريع للإعدام بالصلب في القرن الأوّل الميلاديّ، هي التذكيرُ بالعار الذي يلحقُ بمَن ينال هذا العقاب. والنشيد إلى أهل فيلبي (2 : 6 – 11)، يربطه ” بإخلاء ” المسيح ذاته وطاعته  ” حتى الموت، الموت على الصليبْ”. الصليبْ، ذروة إعدام العبيد، مغروسٌ في قلب المسيحيّة. فموت يسوع، موته على الصليبْ، وبدون أن يكونَ إضافة بولسيّة، هو مصدر الإيمان المسيحيّ.

إنه ” لاهــــــوتٌ يتحـــــّرك ” ….. هو أوّلا حدثٌ، أداةُ إعدام ٍ شائعة في الإمبراطوريّة الرومانيّة، ولكنّه بالنسبة إلى المسيحيّين هو أيضا المكان الذي يكشفُ الله فيه عن نفسه في مسيحه المصلوبْ. ويتمّ هذا الكشف بـــ ” حركـــة “، بـــ ” ديناميكيّة ” : موت المسيح وقيامتــــــــه. كما يقول كريستوف ريمبو.

الصليب أداةَ موت، ولكنه أيضا معبرٌ من الموت إلى الحياة. والإشارة إلى الصليب تقودُ بشكل ٍ لا ينفصل إلى القيــــــامة. وهذه الحركـــــة التي يقودنا المسيحُ فيها هي ” خلاصنا “. فخلاصُنا هو متحرّكٌ دائم، وليس أمرًا سحريّا إعتباطيّا. في هذا العبور تظهرُ ” رسالـــــة “، لغة جديدة، منطقٌ جديد، وهو منطق قدرة الله الذي يختلف عن كلّ حكمة ٍ وكلّ إتفاق بشريّ. فهذا السرّ في نظر بولس عظيمٌ ومعــــقّد: فيه يُظهِرُ الله محبّته إذ يصالح البشر الذين ابتعدوا عنــــــه.

الصليبُ هو إعلانٌ … فكلّ شيء ٍ ينطلقُ من هذا الإعلان : يسوع مات مصلوبًا وقامَ لاجلنا، وجعل تلاميذه شهودًا. الشهادةُ أعلِنَتْ في سياق. وبولس، أوّل الكتّاب المسيحيين، يراسلُ الجماعات ليُريحها في درب وممارسة الإيمان بالمسيح المصلوب والقائم من بين الأموات. والمركزُ الذي يذكّر به بإستمرار في كتاباته هو ” سرّ الصليبْ “.

لا شيءَ يوقِفُ الشهود عن نشر الكلمة في أورشليم، واليهوديّة، والسامرة، وحتى أقاصي الأرض ( رسل 1 : 8) . وسوف يبتعدُ يوحنا لاحقا مسافة ً عن الحدث ليدعو إلى الإيمان، حتى إذا آمنَ قرّاؤه نالوا الحياة ( يوحنا 20 : 30 – 31). فالصليب يُقدَّمُ هنا على أنه مكانٌ رفع المسيح الذي يجذب إليه جميع الناس (يوحنا 12 : 32 – 33).

لكن، سرّ الصليب – القيامة عظيمٌ ومعقّد. فاستيعابُ الرسالة وضمانُ نقلها، والإلتزام بـــ  ” منطق ” الصليب هذا،  الذي لا علاقة له بالمنطق البشريّ، يتطلّب إعادة قراءة متتالية بحسب التحديّات الجديدة التي تواجه جماعات المؤمنين. وسمحتْ سلطة رسائل بولس وروايات الأناجيل بصياغة سرّ الصليب. فظهرتْ، بعد ذلك، طرائق جديدة لقراءة حدث الصـــليب وإعلانه.

 كان يجبُ تدعيم تعاليم بولس لأجل مَن سيخلفونه، وتحديد تعليم الصليب – القيامة في فترة توجّه البحث عن الخلاص إلى مستوى الكون والخليقة (التثنية البولسيّة). ويجبُ السهر أيضا على عدم السماح بتشويه مستودع الإيمان بعمليّة النقل من جيل ٍ إلى جيل (التثليث البولسيّ). ويجبُ أيضا ملاحظة الرهانات الذبائحيّة في سرّ الصليب (كما يقول كريستوف ريمبو) وفهمها حين تزول العبادة الذبائحيّة (الرسالة إلى العبرانيّين)، أو مرافقة التفكير في الألم والمِحَن التي يعانيها المؤمنون (رسالة بطرس الآولى) …

بوجهٍ عامّ، بعد تقدّم تكرار إعادة القراءة وإعادة الكتابة، نلاحظُ أنّ لغة الصليب تتوسّع مع الزمن. فإنطلاقا من تفسيرات ٍ من النوع الكرازيّ، نلاحظَ نموّا في التفسيرات اللاهوتيّة. وتمّ فكّ لغـــــز حدث الصليب على أنه علامة ولغة، وعلى أنه منطقٌ جديد. وظهرت لـــــغة الصليب تدريجيّا دعوة تنتظرُ من المؤمن جوابــــــــــــــــــا. إنه أوّلا جواب إيمان وإلتزام بشخص المسيح المصلوب نفسه. ثمّ هو جوابٌ يُتَرجَم بتعابير كنسيّة وجماعيّة، إجتماعيّة وحتى كونيّة. وهو أخيرًا جواب من النمط الأدبيّ والوجوديّ.

يتبع

Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير