تطرّقنا في موضوعنا عن الحريّة، إلى قرابة أكثر من سبعة عشرة حلقة منها. وكانت بمثابة بعض المقدّمات كمدخلٍ لفهم الحريّة من نواح ٍمعيّنة. ولذا، فكان لا بدّ منها كرياضةٍ فكريّة وعقليّة، ولليونة الحسّ الفكريّ لدينا وللتعمّق في فهم الحريّة من النواحي التي ذُكرت سابقاً.
سنرى في القسم الثاني من هذه الدراسة البسيطة جوانب عديدة لموضوع الحريّة، إن كان من الناحية الكتابيّة، والإيمانيّة واللاهوتيّة، وماذا يقولُ التعليم الكاثوليكيّ الرسميّ (اللاهوت الأخلاقيّ)، وأيضا من النواحي الواقعيّة. ومن خلال تطرّقنا لموضوع الحريّة، سنحاول الإجابة، إن أمكن، عن بعض الأسئلة اليوميّة المتداولة بين الناس علّ وعسى نقوم بإعطاء بعض بصيص صغير لفهم الحريّة (التي دوّخت ولا زالت الكثيرين من شبابنا في تساؤلاتهم الكثيرة حولها). ومهما تكلّمنا وتحدّثنا، فإنّنا سوف لن نفي غرضنا أبدًا. فالموضوع هو معقّد.
هناكَ، في النظرة المسيحيّة للخلق، حريّة – نظام – جمال – كيان- استقلال – ومعنىً. الحريّة، على الرغم مما يبدو للكثيرين أنّ العالم هو ثمرة الصدفة أو نتيجة قدرٍ غاشم أو أية ضرورة من ضرورات الناموس الطبيعيّ، يعترفُ الإيمان المسيحيّ بأنّ هذا العالم قد أراده الله، وخلقه، وأحبّه، وثبّته. فهو يصدرُ عن إرادة الله الحرّة، وعن صلاحه ومحبّته.
في العهد القديم، نرى أنّ حريّة شعب الله هو موضوع لاهوتيّ أساسيّ في إيمان إسرائيل. إنّ تخلـــيصَ الله لشعبه ودعمه له ضدّ الفرعون وجيوشه، يشكّلان تأكيــــــدًا على “التصميم” الإلهيّ الذي فَهِمَ الشعبُ العبريُّ تاريخه من خلاله، وأدركَ أنه تاريخ مُشبعٌ بالأعمال الخلاصــــــية وبالفداء. إنّ تذكير إسرائيلَ المتواصل بأنّ إلهه قد حرّره من سلطان مصر قد غذّى إيمانه بالله عبر القرون. العهد القديم يتكّلم عن الحريّة، وتقريبًا بشكل ٍ حصريّ، من حيث كونها مسألة إجتماعيّة: الأحرار مقابل العبيد. هكذا نصادفُ التعابيرَ العبريّة التي تعني “حرّ”، “حريّة” (حُرّ، حفشا، حوفشي، دِرُر، والفعل “حَفَش”، والتي لا نجدها كثيرًا، في جدالات حول العبوديّة ووضع اليد على….) (خروج 21 : 2 – 5، لاويين 19 : 20 ، تثنية 15 : 12 – 18 ، إرميا 34 : 8 – 17 ، حزقيال 46 : 17).
في هذه النصوص تستعمل بشكل ٍأساسيّ كلمة “حوفشي” للدلالة على أمرئ تمّ تحريره من العبوديّة. أمّا كلمة “حُورْ”، بالمقابل، فتُستعمل لإنسان ٍنبيل، كما في 1 مل 21 : 8 – 11 ، أش 34 :12 ، إر 27 : 20….
لا يوسّع العهد القديم لاهوتاً صريحًا ومباشرًا للحريّة، لكنّه بالمقابل يضجّ بصدى ما عمله الربّ لأجل بني إسرائيل من أعمال تحريريّة. لقد افتُديَ إسرائيلُ لكي يكونَ عبدًا لله ( لا 25 : 42 ، تث 6 : 20 – 25). واللفظة المستعملة لوصف هذا الحدث هي كلمة “فداء” ، وليس “حريّة”. من ناحية ثانية، كان تقليدُ سنة ِ”حريّة” (لا 25 : 10)، خاضعًا لبعض التوسيع اللاهوتيّ، كما في أش 61 : 1.
الحريّة هي، في الواقع، كما يقولُ الأب إيوان شهوان، فكرة تمسّ قلب الإختبار البيبليّ إنطلاقاً من إختبار الخروج، وصولاً إلى لاهوت القديس بولس حول الحريّة من الخطيئة والموت. الحريّة هي إنعتاق من الضغوط والرقابة والإستعباد.
إنّ إله العهد القديم يبدأ تاريخه الخاصّ الخلاصيّ مع البشر برواية تاريخ سابق هو تاريخ الأجداد إبراهيم واسحق ويعقوب. ثمّ يأتي تاريخ يوسف ليربطَ التاريخ الأوّل بتاريخ العهد مع اسرائيل. من هو “إلهُ الآباء”؟ إنه ليس إلهاً يُعبَد في أماكن ثابتة، بل هو إلهُ الرُحّل (المسيرة)، إلهُ الإختيار المجانيّ، إله الدروب الذي يقودُ إلى “أرض غربة”. إنه يعِدُ بإمتلاك أرض وبنسلٍ كثير، ولكن لا وجودَ بعدُ لقواعد تنظّم التشريع والعبادة. ويتهدّد تاريخ الوعد على الدوام خطرُ ضيـاع في مــسالك التُرّهات البشريّة البعيدة عن أيّ مَثَل يُحتَذى به. ولكنّ الله يُتابع قيادته عبرَ كلّ الإضطراب البشريّ. إلهُ إسرائيل إذن، ليس إلهاً يجلسُ على عرش في سكينةٍ طوباويّة غيرَ آبه ٍ لمصير البشر ولا لمسيرة التاريخ. إنه إلهٌ حيٌّ، يرى مذلّة الناس يسمعُ صراخهم. إنه إله “يتلزم” الحياة، إلهٌ يُحرّر ويُخرِجُ من العبودية، إلهٌ يتدخّل في التاريخ ويفتحُ تاريخاً جديدًا. إنه إله الرجاء. لكنه ليس إله القدريّة العمياء الذي يكبتُ حريّة البشر.
المراجع : كتاب المسيحيّة في عقائدها – مجلس أساقفة ألمانيا (الفكر المسيحيّ بين الأمس واليوم – الحريّة في الكتاب المقدس (دراسات بيلبيّة – الرابطة الكتابيّة).