الهجرة في بعدها الكتابي واللاهوتي هجرة إبراهيم وعائلته- نموذجا ليست الهجرة، بعيدة عن منطق الكتاب المقدس، سواء في العهد القديم أو الجديد، فالهجرة في بعدها الأفقي: هو انتقال من مكان ما، يفتقر الى الموارد المائية والحياتية الى أمكنه أخرى أكثر وفرة وفيها فرص الحياة كثيرة. ولكن إذا تأملنا مليًّا في هجرة عائلات الآباء، لنجد أن للهجرة، أبعاد لاهوتية وروحية وحياتية. وفي هذه المناسبة العالمية، انتقيت عائلة من العهد القديم ألا وهي ابراهيم لكي نرى من خلال هذه العائلة المعنى الحقيقي للهجرة.
١- هجرة إبراهيم يبدأ الفصل الثاني عشر من سفر التكوين بهذه الآية- المفتاح والتي تقول : «وَقَال الرَّبُّ لأَبْرَامَ: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ» (تك12: 1). الرب يتدخل بشكل مباشر في حياة إبراهيم، طالبًا منه أن يترك أرضه مكان تجذّره؛ عشيرته قربة الدم، أي التي تحمي أبناء العشيرة من الأخطار المحدقة، وأيضًا ترك البيت الوالدي، مع كل ما يمثله من ميراث وتركة وجاه وراحة وبحبوحة. يطرح لنا هذا الفصل، سؤالاً جوهريًا، ألا وهو: لماذا يقبل ابراهيم أن يترك أرض آبائه مع أنه كان غنيًّا ولديه أملاك كثيرة؟ ابراهيم كغيره من أترابه، يعبد الأوثان، مشكلته الكيانية إنه ليس لديه أولاد، ولا أحد من تلك الآلهة استطاع أن يحلّ له عقدته، سوى الله وحده. فإبراهيم يترك أرضه، لأن هناك من عرف مشكلته وأنصت الى دعائه، وشعر بألمه العميق، وبرغبته القوية الى أن يكون لديه طفلاً، إنه الرب إله الآلهة كلّها ( ر.ا، 50: 1)، وهذا الإله، وعد إبراهيم بأنه سيرزقه ولدًا يكون من صلبه، ومنه سيأتي المخلّص المنتظر (ر.ا، مت1: 1- 2). سيترك إبراهيم أرض آبائه، ليس فقط من أجل مصلحته الشخصية ومصلحة عائلته، بل أيضًا من أجل كل الذين سيأتون فيما بعد، أي من نسله المبارك هؤلاء الذين سيرثون أرض الميعاد، سيصبح ابراهيم بركة الشعوب كلّها (ر.ا، تك12: 2). الهجرة ستشرّع الباب واسعًا لفيض من بركات من خلاله، ستصل الى كل عشائر الأرض (ر.ا، تك 12: 3). فإبراهيم في حركة هجرته بتركه بلده الأم، ستيحوّل الى شخص كونيّ، حيث منه، سيبزغ الفجر المنتظر، فجر التجسد والفداء والقيامة.
٢- عناصر الهجرة: إنّ هجرة إبراهيم، لديها عناصر لاهوتية تؤلّف حقيقة الهجرة، وهي نموذج لكل هجرة مفترضة، إنها المفتاح الذي بفضله نفهم حركة انتقال العائلات، وهذه العناصر هي على الشكل التالي :
– الهجرة دعوة من الله،
– تتطلبّ فعل قبول وطاعة من قبل المدعو، تُلزم بالتحررمن كل شيء، كالمكان والإرث والضمانات البشرية.
– والإستسلام الكامل الى عناية الله- بطاعة وحرية –
الهجرة لديها استراتيجية طويلة الأمد، ترمي الى بناء تاريخ الأشخاص والجماعات والشعوب، إنطلاقًا من العلاقة مع الله.
– فلكي تكون الهجرة تدخل في صلب مخطط الله، عليها أن تأخذ بعين الإعتبار مصلحة الجميع. فعندما تقرر العائلة الهجرة، عليها ألا تكون على حساب مصلحة الآخرين والوطن التاريخ، تكون قد انحرفت عن مسار الهجرة الحقيقية. فكل هجرة لا تتضمن تلك العناصر، تكون بعيدة كل البعد عن حقيقة الهجرة- الدعوة. وهنا نسأل، هل هجرة شعوب اليوم ولاسيما المسيحيين منهم، تحمل في بنيتها تلك الأبعاد اللاهوتية والروحية لحقيقة هجرة ابراهيم- النموذج؟ لا شك بأن الجواب يتطلّب الكثير من التأمل والصلاة والدقّة والتمييز. ولكن العائلة التي تترك موطنها تحت مسميات الرخاء “وراحة البال والتخلّص من وجعة الراس” لا تأخذ بعين الإعتبار الإنتماء الى الموطن الأصلي، ستندثر لا محال، لأن قرار الهجرة لم يأخذ بعين الإعتبار خبرة القديسين الذين عاشوا مع الله حقيقة القداسة، من على هذه البقعة الجغرافية من الأرض، فمن ينسى هذه الحقيقة اللاهوتية والكتابية والإجتماعية متهليًا بالتهرّب من مسؤولية البشارة والشهادة، سيحكم على نفسه وعلى تاريخه بالزوال وبالتالي ينساه التاريخ (ر.ا، تثنية 4: 9).
لهذا نردد صدى إنذار الكتاب المقدس حول موضوع الهجرة التي لا تنسجم مع خبرة عائلة ابراهيم، : الإحتراز الدائم من أن ينسى الجميع “عَهْدَ الرَّبِّ إِلهِكُمُ الَّذِي قَطَعَهُ مَعَكُمْ، وَتَصْنَعُوا لأَنْفُسِكُمْ تِمْثَالاً مَنْحُوتًا، صُورَةَ كُلِّ مَا نَهَاكَ عَنْهُ الرَّبُّ إِلهُكَ” (عدد4: 23). يخبرنا التاريخ عن عائلات هاجرت فاختفت واندثرت، فزالت عن الوجود. “لا لن ابيع ارضي بذهب الارض”.