حبيبي السائل الكريم، أتصوّر هذا السؤال يدخلُ في قضيّة مهمّة ألا وهي : إرادة الله وإرادة الإنسان ! أو مشيئة الله ومشيئة الإنسان، وهل هناكَ من تعارض أو تناقض بين الإرادتين؟!
لا بدَ لنا من معرفة ماذا نعني عندما نقولُ ” سلطة ” الله المطلقة؟ والشقّ الثاني فيه شيئٌ من الخطورة؛ فالإنسان ليس حرّا بطريقة كاملة، أو جاهزة وكأنّ الأمرَ منتهيٌ ! كلاّ، ذكرنا سابقا بأنّ الإنسان هو في سيرورة نحو إكتماله، والحرية ليس قالبًا جاهزا، بل هي محنة وإمتحان وعلى الإنسان أن يسيرَ في طريقه كي يجدَ حريّته ويقوّيها، ليس من دون الله، بل مع الله ومن خلاله.
نرجعُ إلى معنى : سلطة الله المطلقة. وهل فعلا هذا التعبيرُ، عندما نطرحهُ بهذا الشكل وبهذه الطريقة، هو صحيحٌ؟! عندما يتكلّم الكتاب المقدّس، والتعليم المسيحيّ واللاهوت ككلّ عن سيادة الله أو ” سلطته “، فهو لا يعني، كما عند بعض المذاهب، ” القدرة الكليّة – التعسّفية، القاهرة، القادرة … الخ؛ بل يعني ” ملكوت الله – مُلك الله – ملكه في المحبّة والرحمة. فسلطة الله المطلقة، ليست سلطة تُجــــيز أن يفعلَ كلّ شيء بالإنسان وبالعالم من دون أيّة عقلانيّة أو موضوعيّة، وكأنه كائنٌ فوقيّ ينظرُ إلينا من علياء ِ سمائه، مزاجيّ! كلّا، وألفُ كلّا، فهذا ليس إله الكتاب المقدّس، ولا إله الآباء؛ إلهنا هو إلهُ الأشخاص، إله المحبّة والعدل والرحمة والحنان، ومُلكه هو في سيادة محبّته وليست في مساحة كونيّة أو زمنيّة. إنه ملكٌ وسلطة خلاصيّة تخلّص التاريخ البشريّ من عماهُ ومن مرضه وشلله. وهذا كان لبّ رسالة يسوع المسيح الخلاصيّة للعالم.
سلطة الله المطلقة، هي مجيئه إلينا في شخص الكلمة – الإبن يسوع المسيح. لإنه يومُ ” يهوه“، اليوم الذي حدّده الله وحقّقه، اليوم الذي فيه يصيرُ ” كلّا في الكلّ”، وفيه الوجود.
يقول اللاهوتيّ كاسبر: ” إنّ فكرة قربَ الله تبلغ في كرازة يسوع، عمقا يتجاوُز كثيرًا ما يقوله العهد القديم عن الخلق. فيسوع يفسّر، بنوع ٍ ما، تفسيرًا جديدا سيادة الله وسلطته وربوبيّته. تقوم سيادته وربوبيّته على سيادة المحبّة”. ( فالتر كاسبر، يسوع المسيح ص138 – 139).
والآن، ربّما يتوضّح الجواب الآن للسؤال أعلاه: بما أنّ سلطة الله هي سلطة المحبّة والرحمة، وبما أنّ إرادة وحريّة الإنسان ليستا كاملتين تمامًا، بل هما يجدان، في الله، نموّهما وتجديدهما وثباتهما، بنعمة المسيح الذي، من خلاله، فتحَ لنا بابًا وبصيصَ نور ٍ جديد للدخول في سرّ الحياة الإلهيّة – والشركة مع الله. إنّ يسوع أعطانا نظرة جديدة لله، مختلفة ً كلّ الإختلاف عن باقي نظرات الديانات الآخرى. فهو، وهذا ما نراه من خلال الإنجيل، صوّر لنا الله بشكل ٍ جدّ عفويّ وبسيط وسلس، من خلال الأمثال والأقوال والأفعال. ومن خلال، أخيرًا، آلامه وموته وقيامته.
لي أنا ولله مخطّطٌ واحد شامل للخلاص، ولا يعملُ الله من فوق رأس الإنسان كضابط محقّق. بل هو ضابطُ الكلّ بكلمته. يضبطنا على منطق وإيقاع يسوع المسيح لكي، من خلاله، نجدُ حقيقة كوننا أحرارًا بحريّة الله للخير وللسلام في العالم.
فعندما أنفصلُ عن مخطط الله الخلاصيّ لحياتي ولحياة العالم، أجدُ نفسي في تعارض ٍ وتنافر ٍ وموقع نشاز معهُ ومع العالم ومع ذاتي أيضا. فتُراني أتنهّدُ كثيرًا على أمور ٍ تحصلُ لي، وألقيها على الله. وأقومُ بفتح باب التصوّرات المغلوطة عنه، فيتشوّه وجهه، وأصابُ بالدوار. ولكن، بالعكس، إن ضبطّتُ نغمتي على نغمته، وإيقاعي على إيقاعه، فسأجدُ مدخلا فرحًا للدخول في سرّ الله وسرّ الحياة وسرّي أنا ايضا.