Athanasius77- wikimedia commons - PD

الأنبا أبيفانيوس شهيد التنوير والإصلاح في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية

طوباك يا أنبا إبيفانيوس يا من تجولت في الأرض مجاهدا في نشر نور المسيح

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

لقد استقبلت رحيل الأنبا إبيفانيوس بحزن شديد، وعندما حاولت إيجاد كلمات تصف هذا الحدث هربت الكلمات لأنها لم تقدر أن تصف هذا الحدث البشع، وعندما جلست متوسلا إلى الله أن يفهمني ما الذي يحدث، فتح خالقي عيني على حقائق كادت أن تضيع وسط الحزن وألم الفراق.

إنني أعتبر الأنبا أبيفانيوس مثلت الرحمات أحد أضلاع قيادة الإصلاح الفكري داخل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في توقيت صعب للغاية، نيافته لم يتردد في إعلان الحق متمثلا بالقديس يوحنا المعمدان، وأعلن في أكثر من محاضرة عن الفكر اللاهوتي الصحيح الذي يعود جذوره إلى الكتاب المقدس وتعاليم آباء الكنيسة، إلا أنّ من أطلقوا على أنفسهم حماة الإيمان لم يرُق لهم أن يحارب تعاليمهم راهب من دير يعتبروه مصدر أفكار مخالفة لهم، و نعتوا تعاليم هذا الدير بالتعليم الهرطوقي.

ليس جديد على الكنيسة وجود خلافات فكرية داخلية، منذ القرون الأولى حدثت خلافات فكرية ولكن كان هدفها نمو الكنيسة، فنذكر مجمع أورشليم  في الكنيسة الأولى الذي ترأّسه القديس يعقوب الرسول لمناقشة قضية المنضمين للمسيحية (أعمال الرسل 15: 7 ) ويوجد العديد من الأمثلة الأخرى.

لم تقتصر الخلافات على الكنيسة الأولى فحسب بل نجدها أيضًا في الكنيسة الكاثوليكية. فقبل المجمع الفاتيكاني الثاني كانت هناك إختلافات على مواضيع عدة مثل الللغة وكيفية الاحتفال بالقداس الإلهي وموضوع الخلاص… ولكنّ الكنيسة عبرت عصر الظلام والتكفير بفضل القلوب والأفكار المحبة للكنيسة وللسيد المسيح.

الحقيقة أن هناك من لم يرغبوا في الإصلاح داخل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ولا يقبلوا وجود من يظهر أفكارهم وتشددهم، إنهم من أطلقوا على أنفسهم حماة الإيمان. وأتساءل – مع قداسة البابا تواضرواس – هل الإيمان يحتاج لمن يحميه ومِمَن؟ لماذا أعطوا هؤلاء أنفسهم حق التحكم في أفكار الآخرين؟  وأعتقد أنهم كتبوا نهايتهم بأيديهم الخبيثة.

على المؤمن البسيط تقييم أي تعليم لمعرفة ما إذا كان يتوافق مع تعاليم السيد المسيح أم يخالفه، بوضع المحبة كمقياس لهذه التعاليم والأفكار. على سبيل المثال إذا تم تكفير أبناء طائفة أخرى لأنهم ليسوا مثلي ولا يؤمنون بالطريقة التي أؤمن بها، فهذا الفكر خطأ لأنه مبني على الكراهية وإحتقار أفكار الآخر ولا توجد فيه أية محبة. أي شخص كرّس حياته ليكون أسقفًا أو كاهنًا أو راهبًا ولم يخضع لطاعة الرؤساء وبدأ بالإهتمام بمصالحه الشخصية فهو لا يُعتبَر شخصًا مكرسًا وقلبه خالٍ من المحبة لإن المحبة تقود إلى الطاعة.

عندما يتجرأ ويقتل إنسان أخاه وأباه بسبب الإختلاف في الأراء فهذا العمل إجرامي لأن المتطرف سمح للكراهية أن تمتلكه وللأسف جفت المحبة واعمته الكراهية وقاده إبليس إلى طريق نهايته جهنم، ومهما كانت وظيفة ومكانة هذا الشخص فهو قاتل ومجرم ويجب معاقبته.

قال أحد الشيوخ: “لا تكون تحت السماء أمة مثل المسيحيين إذا أكملوا ناموسهم، كما لا توجد مرتبة جليلة كمثل مرتبة الرهبان إذا حفظوا طقوسهم، ولذلك فان الشياطين تحسدهم و يحاربونهم بكل اصناف الرذيلة، ويجعلونهم يغمضون أعينهم عن خطاياهم ويوبخون خطايا غيرهم لكى يبعدوا عنهم السلامة ، ويلقوا فيهم الشرور. فنسأل الرب الإله ان يمزّق شباكهم عنا ويخلصنا من أيديهم ” .

كنت منذ أسابيع في زيارة الأديرة ومسار العائلة المقدسة في مصر مع مجموعة مجرية، ويتوافد الالآف لمصر لزيارة مسار العائلة المقدسة التي باركت أرض مصر. فالعالم كله الآن يأتي لينال بركة العائلة المقدسة في مصر ويتخذ من الكنيسة القبطية بمصر مثلا يحتذى به. ولكن قوات الشر لم يعجبها أن تبقى الكنيسة القبطية في مصر مثلاً وقدوة يحتذى بهما. ويحاول الشر منذ قديم الزمان هدم الكنيسة سواء من الخارج – عن طريق الاضطهادات- أو من الداخل -من خلال النزاعات الفكرية والإنقسامات- مازالت قوى الشر تغري أشخاصاً ضعفاء، فهناك أنواع من الإغراءات أشهرها إغراء السلطة والغنى والشهوات الجسدية….ومن تعريف  كلمة “راهب” بأنه هو شخص خرج يطلب وجه الله، ولا يسعى لأمور العالم. فمن سعى لأمور العالم ليس براهب وليس بمسيحي حقيقي. لإن المسيحي الحقيقي يهمه فقط ملكوت السموات والعيش حسب تعاليم السيد المسيح.

وكما ذكر أيضاالقديس سمعان العمودى : ” كما ان الإنسان إذا مشى كثيراً نحو المدينة ونقص سيره ميلاً واحداً ، فقد أضاع كل تعبه ولم يدخلها ، كذلك الراهب إذا لم يجاهد إلى النفس الأخير لا يدرك مدينة الأطهار…”

حرب قوات الشر تزداد يوما بعد يوم، والشر يظهر بوجهه القبيح أكثر من أي وقت مضى، وأتباع الشيطان يحاولون هدم كل ما يخالفهم، فإذا أعلنت مؤسسة بإن زواج الشذوذ حرام ويخالف التعاليم الإلهية تجد أتباع الشر يخترعون قوانين تحلل الحرام، وإذا حاولت مؤسسة دينية إعلاء صوت الأخلاق في عالم يحارب كل القيم الإنسانية نجد من يريد هدم هذه المؤسسات. إذا وجد إنسان يحاول إعلان صوت الحق نجد من يريد قتل هذا الصوت لأن عالم اليوم لا يريد سماع صوت الحق.

دير الأنبا مقار مع الأديرة الأخرى هو إمتداد لمنارة كنيسة الإسكندرية اللاهوتية القديمة، تُطرح  فيه أفكار وتناقش عقائد وتقام دراسات علمية وأكاديمية. لقد حاول أتباع هذا الدير الإحتفاظ بالتعاليم اللاهوتية الإسكندرية التي أثرت في لاهوت كنائس العالم أجمع، ولازال حتى اليوم يتم تدريس تعاليم آباء كنيسة الإسكندرية في أوروبا والعالم أجمع.

حاول البعض نشر شائعات عن الدير بأنه مصدر للمشاكل بينما يمثل الدير للبعض الآخر مصدر نور يضي في عالم يتوق إلى النور، قوات الظلام لم تحتمل هذا النور اللاهوتي وأفكاره المتجددة، التي جاءت على غير ما يريد رؤساء الكنائس حينذاك.

إنّ الخلافات التي حدثت في عهد قداسة المتنيح البابا شنودة الثالث والمتنيح أبونا متى المسكين، وحتى وإذا كانت السياسة لعبت دور في هذا الخلاف إلا أن الشيطان أستطاع استخدام هذا الخلاف ضد الكنيسة. إنها  تفاصيل تاريخية لا مجال لذكرها الآن.

كلنا نعلم أن الخلافات بين قداسة البابا شنودة وأبونا متى لم تكن خلافات عقائدية ولاهوتية بالدرجة الأولى وإلا لكانت الكنيسة حاكمته، ولكنها كانت خلافات في وجهات النظر معظمها حول علاقة الكنيسة بالدولة.

وحتى إذا أختلف المسؤولون على تعليم الأب متى ودير الأنبا مقار، إلا أن أفكار الأب متى لم تحث على كراهية الآخر بل محبة وقبول الآخرين، ولذلك أوجدت قوى الظلام تعاليم مخالفة وأشخاصًا يحاربون الرأي الصحيح. احتُفل بسيامة بعض منهم كرهبان داخل دير الأنبا مقار.

جاء إختيار مثلث الرحمات الأنبا إبيفانيوس وسط هذه الصدامات بين ديرقوي من ناحية التعليم وبين أعداء لهذه الأفكار ومن لا يقبلون هذه التعاليم، العلاقة الطيبة التي بدأت بين قداسة البابا تواضروس وأبناء دير الأنبا مقار لم تعجب أعداء الفكر الإصلاحي. ومن يقرأ الأحداث بعين الباحث سيجد أن المتقدمين لدخول إلى دير الأنبا مقار مثل وائل و ريمون وغيرهم .قد قاموا بأعمال تخالف تعاليم الدير والرهبنة، بالرغم من هذا حاول الأنبا إبيفانيوس بقلب الأب وروحه الصافية حث هؤلاء الرهبان للعيش كما يليق كرهبان حقيقيين عددة مرات، إلى أن وصل الأمر لطرد هؤلاء من الدير بواسطة لجنة شؤون الرهبنة المنبثقة من المجمع المقدس، ولكنهم حاولوا الضغط عليه وأرسلوا خطابًا لقداسة البابا يتضمن فيه توقيعات بعض الرهبان ورغبتهم في ابقائهم في الدير. وبقلب الأب المحب وكمسؤولين مخلصين لرسالتهما قبل قداسة البابا والأنبا إبيفانيوس رجوعهم للدير. إلا أن الجميع لم يعرف ماذا يضمر هؤلاء الرهبان الذين أتخذوا من الرهبنة غطاء لأعمال لا تليق بالمسيحية في السماح للكراهية أن تملأ قلبهم ولا تليق براهب من ناحية الطاعة للرؤساء. فقتلوا من أحبهم وصفح عنهم بأبشع الطرق.

هذا التيار المتطرف الذي يحاول الغزو بطريقة شيطانية تبناه البعض داخل الكنيسة لم يكتفِ بإفساد العلاقات مع الكنائس والديانات الأخرى وإنما يحاول عمل إنقسام داخل الكنيسة، ولم يتوقف الحال على النزاع الفكري وأختلاف الأراء إنما تطورالإختلاف وعدم قبول فكر الأخر إلى الكرهية ومن ثم القتل. وإذا سمح شخص أن تتملكه الكراهية لدرجة ارتكاب جريمة القتل فلا يجوز فقط تجريده من منصبه سواء كان كاهنًا أو أسقفًا بل أيضا يجب معاقبته حسب القوانين.

وهذا ما حدث في مقتل شهيد التنوير والإصلاح مثلث الرحمات النيافة الأنبا ابيفانيوس، قتل لإن الشر لا يحب النور ولا يطيق سماع صوت الحق، وكما سلم يهوذا الاسخريوطي السيد المسيح لسماحة بدخول أمور العالم لقلبه وأغلق قلبه أمام محبة السيد المسيح، هكذا فعل القاتل الذي حاول الأنبا ابيفانيوس قبوله وأعطاع الفرصة الأخيرة إلا أن انغلاق القلب والعقل أمام عمل الروح القدس -الذي يعتبر تجديفًا على الروح القدس- سمح للشيطان أن يستخدمه كأداة لإسكات صوت الحق.

أي رب أسرة أو مسؤول في مؤسسة على دراية كاملة بأن داخل الأسرة الواحدة توجد خلافات وبكل مؤسسة تتنوع الأفكار والمشاكل، وبما أن الكنيسة هي أيضا مؤسسة فهي تحتوي على بشر، وهؤلاء البشر بعضهم يعيش في عالم يفتقد للمحبة ويسعى للسلطة، فيوجد ضعفاء سمحوا بأن تسيطر مغريات العالم عليهم وتقودهم بعيدا عن أهداف الكنيسة الروحية السامية. ولذلك جاءت قرارات قداسة البابا تواضروس مع الآباء الرهبان حاسمة في عودة مسار الحياة الرهبانية للطريق الصحيح، وأن يعيش الراهب فقط لله والصلاة ولا يهتم بأمور العالم، ولا يسمح أن تدخل أفكار أبليس من سلطة وشهرة إلى قلبه.

الآن يتضح جدا أن داخل الكنيسة القبطية هناك تياران أحدهما يحاول إبقاء الكنيسة في مكانها بل يشدّها إلى الخلف ويعرقلها عن التقدم للأمام، والتيار الآخر يحاول بكل طاقتة دفع الكنيسة للأمام نحو الإصلاح والتنوير.

وعلى المسؤولين داخل الكنيسة الآن استئصال هذا التيار الذي يعوق تقدم الكنيسة، لا يوجد طريق أخر للكنيسة إما أن تتقدم للأمام وتستأصل هذه الأفكار والتيارات المتطرفة، وهذا سيكون له ثمنه، أو أن تبقى مكتوفة الأيدي أمام هذه الأفكار فينشأ صراع لسيطرة التيار المتطرف على الكنيسة وعواقب هذا أن الكنيسة ستغلق على نفسها وتموت. ولكن هيهات

النور موجود ولكن الظلام هو عدم الوجود، والإصلاح هو النور الذي يظهر وجود الكنيسة، ولكن التطرف هو الظلام الذي سيدفع الكنيسة للموت. لكن كما جاء في الكتاب المقدس أن أبواب الجحيم لن تقوى عليها، فهذا يعني أن كنيسة المسيح يجب أن تتبنى النور، وتسعى للنقد الذاتي وتنقي نفسها من الشوائب الموجودة.

وأؤمن أن لا صوت الحق سيصمت ولا النور سيصبح ظلام، ولن تقود الكراهية للسلطة، والسلطة ليست طريقا للملكوت، إنما المحبة والحق هما أبواب الحياة الأبدية، لأن الله محبة وحق.

قائد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الحالي هو قداسة البابا تواضروس الثاني، وعلى الجميع إحترام قبوله تحمل مسؤوليات ومشاكل لا يحتملها بشر، ولكن الروح القدس هو من اختار هذا القلب النقي الذي لا يسعى لمصالح شخصية، والمنفتح على عمل الروح القدس، والذي يكن محبة للجميع. ولذلك البابا هو رأس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية،ومن ثمَ يحاول إيجاد حل لهذه المشاكل بقوة الروح القدس، ويمكننا مساعدة قائد الكنيسة في هذه المسؤولية الصعبة بالصلاة من أجله، وقبول قراراته الإصلاحية التي ستحدث في الكنيسة تبعا. وإظهار دعمنا له.

أؤمن بإن حادث أغتيال رمز التنوير والإصلاح في هذا التوقيت، ودماء مثلث الرحمات الشهيد الأنبا إبيفانيوس لن تهدر، لإن هذه الدماء الطاهرة أرادت الآصلاح وأن تكون الكنيسة في أحسن عصورها، وتحارب حرب الظلام وأتباع الظلام. فشفاعة الشهيد مثلث الرحمات الأنبا إبيفانيوس ستعمل في الكنيسة، سواء قبل البعض أو رفضوا أصبح الأمر الآن أمر إلهي وليس بشري، لأن كرامة دماء الشهيد عند الله أعظم كرامة، والله سيحقق التغيير والإصلاح على يد قداسة البابا.

وما علينا سوى الانفتاح على عمل الروح القدس والنظر لكل ما يحدث بمنظور المحبة أساس المسيحية، وقبول الإعتراف بأخطائنا كأشخاص وكمسؤولين داخل الكنيسة. الإصلاح وإستمرار الكنيسة لن يستمر بجهود شخص بمفرده أو أنفتاح مجموعة دون الاخرى على عمل الروح القدس إنما بإرادة جماعية لقبول عمل الروح القدس والإصلاح الإلهي لكنسيته المجاهدة.

طوباكِ يا كنيستي القبطية بشهدائك الدائمين

طوباك يا أنبا إبيفانيوس لأنك أصبحت شهيد التنوير والإصلاح في كنيسة المسيح

طوباك يا أنبا إبيفانيوس يا من تجولت في الأرض مجاهدا في نشر نور المسيح

طوباك يا شهيد التنوير لأنك كنت صوت الحق ولم تخفَ أن تعلن الحق في وجه أبناء الظلام

طوباكِ يا كنيستي القبطية للإنفتاحك على عصر جديد.

طوباكِ فكلما زادت المصائب والمصاعب أزدادت صلابتكِ.
طوباكِ يا كنيسة المسيح لإن المسيح هو من يحميكِ بمن فيكِ من ملايين.

طوباكِ لأنك باقية خالدة، لا على الأرض، إنما في السماء.
طوباكِ لأنك مستمرة في جهادكِ الذي لا يفهمه قاتلو الأبرياء.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

مايكل عادل أمين

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير