كيف تسلّل فكر العصر الجديد إلى فكر وممارسات بعض الكهنة واللاهوتيين الكاثوليك المشهورين مثل أنطوني دي مللو Anthony Di Melo ، أنسلم غرون Anselm Grün وغيرهما.
تسلّلت بدعة العصر الجديد وما تزال إلى بعض ممارسات ونشاطات الرعايا والكهنة وإلى فكر عددٍ ليس بقليل من الإكليروس الكاثوليك. نذكر مثلاً الراهب اليسوعي أنطوني دي مللوAnthony Di Mello والراهب البندكتي المعروف أنسلم غرونAnselm Grün . ويظهر كذلك تأثير العصر الجديد في تصريحات بعض الكهنة الذين ينتقدون العقائد الكنسيّة ويقولون إنها أصبحت تقاليد بالية لا معنى لها مثل عقيدة الثالوث وبتوليّة والدة الإله الدائمة، ويطالبون بكهنوت المرأة والسماح بالمثليّة الجنسيّة ووسائل منع الحمل وما شابه، مثل الأب طوني فلانيري Fr Tony Flannery الذي أدانه الفاتيكان سنة 2012 وحرمه من ممارسة كهنوته بشكلٍ علنيّ.[1]
وقد سبق وحذّرت الكنيسة من وجود هذه الإنحرافات عند البعض، بإيحاء من تيّار العصر الجديد في وثيقة “يسوع المسيح الحامل الماء الحي” (الفصل 6) الصادرة عن حاضرة الفاتيكان سنة 2003.
في هذه المقالة سنسلّط الأضواء من جديد على بعض هذه المذكّرات والوثائق، لأنّه ويا للأسف، وبرغم تحذيرات الكنيسة، ما زال عددٌ كبير من المؤمنين والكهنة يقرؤون مؤلّفات هؤلاء ويسمعون تصريحاتهم ويستشهدون بأقوالهم.
أنطوني دي مللو(1931-1987)
في 24 حزيران سنة 1998، صدرت مذكّرة عن مجمع العقيدة والإيمان[2]، بخصوص مؤلّفات الراهب اليسوعي الهندي أنطوني دي مللو، أشارت إلى الإنحرافات اللاهوتية في كتابات هذا الراهب، وختمت قائلة إنّ ما ورد فيها لا يتوافق مع الإيمان المسيحي، وتنتج عنها أضرار جسيمة للمؤمنين. من بعض الملاحظات الواردة في هذه المذكرة:
لا شك في أنّ الأب دي مللو كاتب مشهور وقد تُرجِمت كتاباته إلى عدّة لغات وفي بلدان عديدة. نجد في قصصه القصيرة أفكارًا مقبولة من الحكمة الشرقية، قد تساعد في ضبط النفس وفي تخطّي عوائق ورباطات تعيق حرّيتنا وتسندنا في مواجهة الصعوبات الحياتية. خصوصًا في بدايات كتاباته، نجد تأثيرات من تيّارات روحية بوذيّة وطاويّة، لكنها بقيت ضمن الروحانية المسيحية الصحيحة.
لكن نلاحظ في بعض المقاطع من مؤلّفاته الأولى، وكذلك في مؤلّفاته اللاحقة، انحرافًا تدريجيًا عن أهمّ مكوّنات الإيمان المسيحي: يستبدل الوحي المعطى بالمسيح يسوع بحدْسٍ عن إله لا شكل له ولا صورة، كأنّه يتكلّم عن فراغ. بحسب ادّعائه، ومن أجل رؤية الله، يكفي أن ننظر مباشرة إلى العالم. ولا يمكننا برأيه، قول أيّ شيء عن الله لأنّ المعرفة الوحيدة هي عدم المعرفة. (اللاأدرية فكر أدانته الكنيسة في تعليمها بند 2127-2128 ). هذا الإنكار الجذريّ ينفي الكشف الإلهي عن الله في الكتاب المقدس. برأيه كذلك أنّ كلمة الله ليست سوى دلالات لبلوغ الصمت. (الكنيسة تشدّد على ضرورة الوحي في تعليمها بنود 38- 74-142-143-150-1960 وغيرها).
في مقاطع أخرى، يدين الأب دي مللو الكتب المقدّسة لدى الأديان جميعها، بما فيها الكتاب المقدّس ويقول إنّها تمنع الأشخاص من اتّباع المنطق السليم وتجعلهم أغبياء وأشرار. فالأديان بنظره، بما فيها المسيحية، هي الحواجز الأساسية التي تمنع من اكتشاف الحقيقة (!). في كلّ الأحوال وبحسب دي مللو، لا يمكن تحديد الحقيقة بمحتوى دقيق، لذلك من التعصّب أن نفكّر بأنّ إله ديانتنا هو الإله الوحيد الحقيقي. (نسبيّة الحقّ المطلق في العصر الجديد بحجّة أنّ كلّ الأديان طرق مختلفة تؤدّي جميعها إلى الله). الله هو حقيقة كونيّة، مبهمة وكليّة الحضور. ونحن نجهل شخصانية الألوهة في واقعنا المُعاش. (الألوهة اللاشخصانية والطاقة الكونية في العصر الجديد).
يُظهر الأب دي مللو تقديرًا للمسيح ويعتبر نفسه تلميذًا له، لكن يعتبره كمعلّم مثل باقي المعلّمين الذين عرفتهم البشرية. الفرق بينه وبين سائر الناس أنّه كان “مستنيرًا” وحرّاً بشكل كامل، بينما الآخرون ليسوا كذلك. لا يقبل به كابن الله، بل على أنّه يعلّمنا أنّ كلّ الناس هم أبناء الله. (المسيح في العصر الجديد هو أفاتارAvatar أي معلّم مستنير مثله مثل بوذا وراماكريشنا وكونفوشيوس، أي أحد تجسّدات الطاقة الكونية والوعي المسيحاني Conscience christique).
أمّا بخصوص مصير الإنسان النهائي فهو غير واضح عنده وملتبس هو الآخر. في بعض الأحيان، يتكلّم عن “ذوبان” الكائن البشري في الله غير الشخصي، مثل ذوبان الملح في الماء. (كما في العصر الجديد الذي يروّج لعلاقة ذوبان في الألوهة اللاشخصية بينما المسيحية تتكلّم عن علاقة “غيرية” وثنائية بين الله والإنسان لا ذوبان فيها بل اتحاد في كمال المحبة).
وفي أحيان أخرى، يقلّل من أهمية مصير الإنسان بعد الموت، لأنّ وحدها الحياة الحاضرة مهمّة بالنسبة إليه. (الاتجاه ذاته الذي تأخذه تقنيّات العصر الجديد وخصوصًا في البدائل النفسية المستحدثة حيث يكون التركيز على اللحظة الآنية فقط وأولوية الإهتمام بالأمور الدهرية وتنمية القدرات الشخصية).
الشرّ عنده هو بسبب الجهل. لا وجود لقانون محايد في الأخلاقيات. الخير والشرّ هما فقط تقديرات فكرية نسبية لا علاقة لها بالحقيقة. (لا وجود للخطيئة في العصر الجديد لكن سبب الشرّ هو جهل الإنسان لألوهيته الطبيعية، فهو إله عليه أن يستعيد ألوهيّته بتقنيات وتدريبات معرفية، باطنية، خفائية).
أخيرًا يظهر لنا، بحسب رأي الأب دي مللو، كيف أنّ قانون الإيمان المسيحي بخصوص الله أو المسيح، لا يمنع مسارًا شخصيًا مستقلّاً لبلوغ الحقيقة. فالكنيسة عندما جعلت من كلمة الله في الكتاب المقدس معبودًا صنمًا نجحت في طرد الله من الهيكل. بالتالي فقد خسرت الكنيسة سلطة التعليم باسم المسيح.
هذا مختصر الملاحظات التي وردت في المذكّرة الصادرة عن مجمع العقيدة والإيمان بخصوص الأب أنطوني دي مللو والموقّعة باسم الكاردينال جوزف راتزنغر الذي أصبح فيما بعد قداسة البابا بندكتس السادس عشر.
يتبيّن لنا كيف نجح تيّار العصر الجديد في التسلّل في الكنيسة عبر كتابات ومؤلّفات راهب مشهور، فأفسدت فكره وعقله وكادت أن تضلّل كثيرين فينحرفون عن الإيمان الحق بالرب يسوع المسيح، له كلّ المجد. (يتبع)
جيزل فرح طربيه- باحثة في البدع
[1] https://www.irishtimes.com/news/social-affairs/religion-and-beliefs/catholic-doctrines-no-longer-make-sense-says-fr-tony-flannery-1.3030855
[2]http://www.vatican.va/roman_curia/congregations/cfaith/documents/rc_con_cfaith_doc_19980624_demello_fr.html