للعصر الجديد تعاليم مضلّلة يحاول نشرها بكلّ الوسائل المتاحة خصوصًا بين المؤمنين المسيحيين إكليروسًا وعلمانيين. لذلك يستعمل من أجل تحقيق أهدافه استراتيجيةً لها 3 محاور أساسية هي: التشكيك في ألوهية المسيح وفي وحي الكتاب المقدّس، التسلّل في الكنيسة وخداع المؤمنين. تكلّمنا في المقالات السابقة عن التشكيك في ألوهية الرب يسوع وبالوحي الإلهي في الكتاب المقدس. وسنتناول في هذه المقالة استراتيجية التسلّل في الكنيسة.

التسلّل في الكنيسة

"إحترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان، ولكنّهم من داخل ذئابٌ خاطفة!" (مت7/ 15). يستعمل العصر الجديد من أجل التسلّل في الكنيسة، طرقًا ملتوية ومعانٍ مبطّنة تبدو في ظاهرها بنّاءة ومستقيمة الرأي، لكنّها تُخفي في طيّاتها أضاليل وأهداف خبيثة غير مُعلنة.

تقول الأخت ماري أنسيلا[1]Soeur Marie Ancilla  من رهبنة الدومينيكان، المهتمّة عن كثب بتيّار العصر الجديد، إنّ عدوّ الخير قد نجح خلال حقبات عديدة من التاريخ في أن يلوّن الدين بروح العصر ليجذب الشباب بشكلٍ أساسي. وهذا الروح نفسه يتسلّل في أيامنا هذه في الكنيسة، تحت أشكال تيّارات روحية مختلفة توحي بالفرادة والحداثة والتجديد. وتتساءل كيف أنّ أمورًا مثل التنمية البشريةDéveloppement Personnel ، الدورات النفسية الروحيةsessions psycho-spirituelles ، التاسوعيةEnneagramme، الشفاءات الإلهيةGuérisons Divines  وحتى الشمانية، أصبحت من الإهتمامات الروحية الأساسية لدى المسيحيين. أيضًا ما يسمّى بـ"شفاء شجرة العائلة" La Guérison de l’arbre généalogique  وعلاج الأغابي Agapè Thérapie، الريكيReiki ، الفانغ شويFeng Shui  (علاج طاقة المكان)، التنويم الإيحائيHypnose، السوفرولوجيSophrologie وغيرها. كلّ هذه الوسائل هي فعلياً من تلك التي نجح العصر الجديد في الترويج لها كتجارب متقدّمة للتغيير النفسي والروحي، ويعتبرها عددٌ كبير من المؤمنين، ويا للأسف، تجارب مسيحية أصيلة.

يقول الرسول بولس لتلميذه تيموتاوس: "لأنّه سيكون وقتٌ لا يحتملون فيه التعليم الصحيح، بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلّمين مستحكّة مسامعهم، فيصرفون مسامعهم عن الحقّ وينحرفون إلى الخرافات" (2تم4/ 3-4). فكلّ الناس، مسيحيون وغير مسيحيين، بتأثيرٍ من الإستهلاكية والمادية والعولمة وتطوّر التكنولوجيا والإنترنت وانتشار مواقع التواصل الإجتماعي، يسعون إلى مزيدٍ من الرفاهية. لذلك المسيحية الأصيلة لم تعد تجذب المسيحيين، بل أصبحت تستهويهم مسيحية شكلية أكثر سهولة وبدون صليب! لذلك استبدلوا المرشد الروحي بالغورو/ والكاهن بمدرّب الحياة Life Coach والمنوّم Hypnotiseur / والأسرار الكنسية بالتدريبات النفسية والتنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية، /ونعمة الروح القدس بطاقة ٍمجهولة تسود الكون وتتخللّ كلّ خلائقه!

تؤكّد الأخت أنسيلا أنّ محتوى الديانة العالمية الجديدة للعصر الجديد، هو خلطة غير متناسقة مؤلّفة من بعض مبادئ الديانات الأساسية مع علوم نفسية بديلة، بالإضافة إلى بعض القيم المسيحية كالرحمة، الرأفة، قوة الله الشافية الإنسان، الحرية، الغفران، الخلاص وغيرها لكنّها مفرّغة من محتواها المسيحي وفي خدمة الرفاهية ونوعية حياةٍ أفضل. وتشير إلى ما ورد في وثيقة "يسوع المسيح الحامل الماء الحي" التي حذّرت من أنّ العصر الجديد هو استعادة للغنّوصية التي تستبدل كلمة الله بكلمات بشرية تتناقض ولو بصورة خفيّة مع المسيحية. مثلاً التاسوعية، وهي أداة نفسية أصولها إيزوتيريكية، تضمّ 9 أنواع من الطباع البشرية تُستعمل كوسيلةٍ للنموّ الروحي وهي تُدخِل ارتباكًا في العقيدة وعيش الإيمان المسيحي. وتأسف الأخت أنسيلا لتغييب هذه الوثيقة المهمّة التي تسلّط الضوء على فخاخ العصر الجديد وتساعد المؤمن في حُسن التمييز.

هذا البحث عن الرفاهية بأيّ ثمن، ينتجُ عنه أمورٌ خطيرة مثل:

- تَبعية مرَضية لمرشدٍ قد يكون غير مؤهّل في غالب الأحيان وقد يكون وسيطًا يُدخل المؤمن في نفق الخفائية.

- اتّباع الحدْس الشخصي بدل العقل و المنطق وتجربة المحسوس من أجل اكتشاف ما هو مخفي.

- إنقطاع عن التواصل مع العائلة ومحيط القربى بحجّة تنقية وتطهير الذاكرة وشجرة العائلة.

- إستبدال النعمة الإلهية بطاقاتٍ وذبذباتٍ إيجابية وسلبية.

– إستبدال محورية المسيح بمحورية الذات.

– إنقطاع عن المحبة.

هذه الديانة العالمية الجديدة للعصر الجديد، أشار إليها أيضًا الراهب سيرافيم روزSeraphim Rose (1934-1982) وحذّر منها في كتابه: "الأرثوذكسية وديانة المستقبل" Orthodoxy and The religion of the future واصفًا إياها بالوثنية الجديدةNeo-Paganism

نلمسُ هذا التسلّل أيضًا، من خلال انتشار طرقٍ للتأمّل غريبة عن التقليد الرسولي، مأخوذة بأغلبها من تقنيات التأمّل الشرقي الآسيوي كاليوغا والتأمّل التجاوزي والزن وما شابهها. نتج عنها مولودٌ هجين سمّوه: يوغا مسيحية، بالرغم من تحذيرات عديدة وردت في تعاليم وإرشادات بابوية رسمية صادرة عن حاضرة الفاتيكان.[2]

كما يستعين بعض الكهنة ويروّجون لعلاجات الطاقة كالريكيReiki بوضع الأيدي على المرضى والقيام بحركات غريبة أقرب إلى السحر والشعوذة، مهمّشين قدرة الله ونعمة روحه القدّوس. متجاهلين تعليم الكنيسة (بند 2117 من التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية) وبالرغم من أنّ مجلس الأساقفة الكاثوليك في الولايات المتحدة منع من استعمال الريكي في المؤسسات الكاثوليكية لأنها تتناقض مع الايمان المسيحي سنة 2009. [3]

في الظاهر تبدو كلّ هذه الوسائل بريئة وغير ضارّة ولا تتناقض مع الإيمان المسيحي. وهي من نتاج العلوم الإنسانية أو من البدائل النفسية أو من علوم نفسية مستحدثة تأخذ لها تسميات مثل علم النفس الإيجابيPositive Psychology وعلم النفس التكامليIntegrative Psychology وعلم النفس عبر الشخصيTranspersonal Psychology وعلم النفس الإنسانيHumanist Psychology الخ. وبعض التقنيات أصبح رائجًا في الرعايا والمؤسّسات التعليمية المسيحية مثل دورات التنمية البشرية وتطوير الذات وفنون التواصل وحلّ النزاعات، البرمجة اللغوية العصبيةNLP ، التفكير الإيجابيPositive Thinking ، الجستالتGestalt ، تأمل الوعي الكامل Mindfullness تدريب الحياة Life coach. مع الإشارة إلى أنّ العديد من الرعايا اخترقتها نشاطات دنيوية دهرية من روح العالم فصارت بعض الكنائس تشابه، ويا للأسف، النوادي العالمية.

إنّ شريحة كبيرة من الإكليروس تعتبر كل هذه التقنيات أمرًا إيجابيًا ومفيدًا مع أنّ أغلبها غريب عن روح التقليد المسيحي، وما هو من علم النفس البديل يتناقض في مساره مع المسار الروحي المسيحي. وسنتكلّم في مقالة لاحقة عن تقريرٍ قدّمته لجنة متخصّصة مؤلّفة من كهنة وعلماء نفس، إلى مجلس أساقفة فرنسا، يبيّن تضاد المساريْن النفسي والروحي والتداعيات السلبية لما يُسمّى بالدورات النفسية - الروحية ودورات الأغابي في الكنيسة.

نقول في الختام إنّ الشيطان لا يريد تدمير كنيسة المسيح بشكلٍ مباشر، بل يريد أن يمتلك تدريجيًا قلوب وأرواح المؤمنين ليقودهم إلى الهلاك الأبدي. يريد كهنةً وإكليروسًا يرددّون شعارات العصر الجديد ويستشهدون بروّاده ومؤلّفيه ومعلّميه وينادون بمسيحية بدون صليب، بمسيحية الرفاهية والنفعية والتمحور حول الذات والسعادة الأرضية. يريد عدوّ الخير أن يحوّل تدريجيًا الأبوّة الروحية بهديْ الروح القدس، من أجل تقديس البيعة/ إلى علاج نفسي بحسب روح العالم، من أجل بلوغ كمالٍ شخصي وسعادة دهرية مؤقتّة. لذلك لا ينصح قادة العصر الجديد أتباعه المسيحيين بهجر كنائسهم بل بالبقاء فيها والعمل من داخلها من أجل التغيير.

تحذّر أليسا ماك كلينElissa Mc clain  وتقول إنّ العصر الجديد يزرع في الكنيسة بذارًا لـ"مسيحيين كونيين" يدّعون أنّهم مسيحيّون "لهم صورة التقوى ولكنّهم ينكرون قوّتها" (2تم3/ 5). لذلك أصبح البعض يكرز بإنجيل البحبوحبة Prosperity Gospel والبعض الآخر يبشّر بفيزياء الجنّةPhysics of Heaven   وأصبح بعض الإكليروس الكاثوليك يستقبلون بالتصفيق الرائين والرائيات، الوسطاء والشافين الروحيين، المحاضرين في التفكير الإيجابي وقانون الجذب وعلم النفس عبر الشخصي والمتكامل وتأمّل الوعي الكاملMindfulness! حتّى أنّ أتباعًا للعصر الجديد يدرّبون بعضًا من الإكليروس في البرمجة اللغوية العصبية والتنويم الإيحائي. ويصرّح بعض الكهنة علناً عن إنكارهم لبتولية العذراء مريم ولقيامة المسيح، ويطالب البعض الآخر بتشريع الإجهاض والقتل الرحيم وزواج المثليين.

ويُخشى كذلك من تسلّل فكر العصر الجديد في الحوار المسكونيّ عبر تسلّل نظريات مشتبهة مثل "التعدّدية الدينية"Pluralisme Rligieux  لجون هيك و"النسبية الدينية"Relativisme Religieux التي انتقدها البابا بندكتس والبابا فرنسيس بشدّة وفي عدّة مناسبات.

لا ضير في أنّ مثل هذه التقنيات ربّما تساعد في حلّ مشاكل نفسية لدى بعض المؤمنين، إلّا أنّه يُخشى من"نَفسنة" الروحانيات وتهميش عمل النعمة تدريجيًا، إلى أن تصير هذه التقنيات البديل عن روح الله العامل في الكنيسة وهذا ويا للأسف، ما بدأ يحصل عند البعض.

لقد حذّر البابا فرنسيس في عدّة مناسبات من المهندس الروحي الذي يتلاعب بنا، ومن الغسيل الدماغي اللاهوتي الذي يُبقي إيماننا سطحيًا فلا نبني علاقة شخصية بالمسيح. كما حذّر من إشكاليات الدورات النفسية الروحية قائلاً "إننّا لن نتقابل مع الرب بالضرورة في التجارب الذاتية أو في اجترار الخواطر: فالدورات الدراسية والتي تهدف لمساعدة الذات في الحياة قد تكون مفيدة، ولكن إن عشنا حياتنا الكهنوتية من دورة إلى دورة، من نهج إلى نهج أخر، قد نصل إلى البيلاجيانية [هرطقة تعود للراهب بيلاجيوس]، أي إلى تحجيم قدرة النعمة، التي تنشط وتنمو بمقدار نجاحنا في “تقدمة أنفسنا”، بإيمان، وبمقدار “تقديم الإنجيل” للآخرين، وبمقدار “تقديم الدهن” القليل الذي لنا لمَن لا يملك أي شيء."[4]

ويدعو البابا فرنسيس رُعاة الكنيسة وأساقفتها إلى "البساطة" ويقول إنّ الحماسة والجهد والعمل والتخطيط والتنظيم تخدم بلا شك ولكن علينا أن نعي قبل كلّ شيء، أنّ قوة الكنيسة ليست من ذاتها بل هي مستترة في المياه العميقة لله حيث الكنيسة مدعوة لتُلقي شباكها"[5] [6].

إنّ تسلّل كلّ هذه التقنيات في الكنيسة بهذا الشكل الواسع والمريب، بحجّة مواكبة الحداثة والتطوّر وروح العصر، يجعلنا نتساءل بعجب: هل افتقرنا ونحن نُغني كثيرين؟؟ (2كو6/ 10)

لقد أعطانا الربّ بتجسّده وموته وقيامته، كلّ ما نحن بحاجة إليه للخلاص (2بط1/ 3-4)،

لماذا إذاً نتهافت لنشرب من الآبار المشقّقة ونحن لدينا نبع المياه الحيّة؟! (إر2/13)

لمجد المسيح.

(يتبع)

[1] من كتبها: Sr Marie Ancilla,Le nouvel Age à l’oeuvre dans l’Eglise,La Gnose de Retour, ed l’Harmattan

[2]1989، يوكات بنود: 504- 506- 356 وثيقة يسوع المسيح الحامل الماء الحي، 2003، رسالة الى الاساقفة الكاثوليك في بعض مظاهر التأمل المسيحي،

[3] https://zenit.org/articles/us-bishops-declare-reiki-therapy-unchristian/

[4] http://w2.vatican.va/content/francesco/fr/homilies/2013/documents/papa-francesco_20130328_messa-crismale.html

عظة قداسة البابا فرنسيس قداس الميرون المقدس – خميس العهد بازيليك القديس بطرس- الخميس المقدس الموافق 28 مارس / آذار 2013- موقع زينيت

[5] http://w2.vatican.va/content/francesco/fr/speeches/2013/july/documents/papa-francesco_20130727_gmg-episcopato-brasile.html

[6] https://fr.zenit.org/articles/l-universite-lieu-d-apprentissage-de-la-solidarite/