راح أحد الكهنة الشبَّان إلى مخيَّم اللاجئين حيث الفقر والتعتير، وجعل يخطب فيهم: طوباكم، ما أسعدكم! أنتم الفقراء، أنتم المعدمين. سيكون لكم ملكوت السماوات. هنيئاً لكم! كلُّهم يضطهدونكم، يجوِّعونكم، يلاحقونكم، فلا مستقرَّ لكم. وردَّد خطابه مرَّة ومرَّتين. في المرَّة الثانية، انهالت عليه الشتائم والانتقادات. ما هذا الكلام؟ تعال واسكن بيننا فنرى إذا كنتَ تقول بعدُ هذا الكلام!
ومع ذلك، أعلن يسوع في أوَّل عظة من عظاته، التي قيلت على الجبل: “طوبى للمساكين بالروح، طوبى للحزانى، طوبى للودعاء، طوبى لصانعي السلام…” أتُرى يسوع يعيش خارج العالم؟ ألا يرى أين هي السعادة، والوجوه المحمرَّة والبطون الفارغة؟ عند الأغنياء، عند أصحاب القوَّة والعنف، الذين يدوسون الناس ويجعلونهم يركعون أمامهم من أجل لقمة العيش. أيريدنا نحن سعداء؟ أولادنا حفاة، أمعاؤنا فارغة، حالة تعيسة تدعو إلى الشفقة. وبعد هذا، نُحسَد لأنَّنا سعداء ولأنَّ ملكوت السماوات لنا.
ما يكون جوابنا؟ الفقر والعوز أمران لا يريدهما الله. فمنذ العهد القديم تمنَّى على شعبه ألّا يكون فقراء في ما بينهم. وكم كان يسوع قاسيًا على من يكدِّس المال. قال ذلك الغنيّ الذي نعته يسوع بالجاهل، بالغبيّ: “كُلي يا نفسي واشربي وتنعَّمي” (لو ١٢: ١٩). فقال له الله: “في هذه الليلة تُطلَب نفسك منك، وهذه التي أعددتَها لمن تكون؟” (آ٢٠). والغنيّ الذي رأى لعازر عند بابه ولم يساعده، كان نصيبه جهنَّم فاحتاج إلى نقطة ماء يرطِّب بها لسانه (لو ١٦: ٢٤). ثمَّ إنَّ المال المكدَّس هو “مال ظلم”، “مال شرّ” (لو ١٦: ٩). ولن يصبح مال حقّ ومال خير إلّا حين تعطيه.
1 – السعادة أوَّلاً “بالفقر بالروح”، هي أن لا يتعلَّق قلبنا بشيء في هذا العالم. لأنَّ الربَّ قال: “حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك”. إذا أنا تعلَّقت بالمال والممتلكات وعشتُ في البخل، هل أكون سعيدًا أم تعيسًا؟ وما يكون أولادي؟ والواقع، حين أتعلَّق بشيء أُصبح في النهاية عبدًا لهذا الشيء، فالحرِّيَّة الحقيقيَّة تقوم بأن نمتلك كلَّ شيء ونعتبر في النهاية أنَّ لا شيء لنا. في هذا قال بولس الرسول: “كأنَّ لا شيء لنا ونحن نملك كلَّ شيء.” هذا هو الفقر بالروح. وحدهم الذين يكونون من هذه الطينة يتركون وراءهم أثرًا، في البيت، في الرعيَّة، في المجتمع، بل في العالم. فالذي يلتصق ببيته، بأرضه، بأملاكه وبالذين عرفهم في صباه يبقى هناك، فيكون مثل الماء في اللقن: في النهاية يصبح هذا الماء آسنًا، نتنًا، وفي النهاية، لن يبقى ماء، فيصبح الإنسان فراغًا، جفافًا.
٢- هل اختبرتم يومًا العنف وأين يمكنه أن يصل بنا؟ قالت الشريعة القديمة: لا تقتل. ما اكتفى بها يسوع المسيح. قيل لكم، أمّا أنا فأقول لكم: “من غضب… من قال لأخيه: رقا (= مبهول)، من قال: يا أحمق…” (مت ٥: ٢٢). هل نعرف إلى أين يقودنا الغضب؟ إلى العداوة والقتل. فالغضب هو أوَّل الطريق إلى العنف. أمّا يسوع فرفض هذا المنطق: “كن مراضيًا لخصمك سريعًا ما دُمت معه في الطريق، لئلّا يسلِّمك الخصمُ إلى القاضي، ويسلِّمك القاضي إلى الشرطيّ فتُلقى في السجن” (آ٢٥).
مقابل هذا دعانا يسوع إلى السعادة: “طوبى للودعاء”. أصحاب اللطف في الكلام وفي التعامل مع الناس. غضبَ عليَّ أغضب عليه! ويتواصل العنف. ضربك على خدِّك الأيمن بيده اليسرى، وأنت تضربه باليمنى على خدِّه الأيسر، وهكذا تتوالى الضربات… كما كان القتل في العصور القديمة بين القبائل بحيث تفنى القبيلتان المتخاصمتان. منع الربُّ أحدًا أن يقتل قايين مع أنَّه قتل هابيل ذاك الضعيف. والرجل الذي قتل أخاه لسبب تافه وبناء على دعوة امرأته، مات هو قبل أن يموت أخوه، ها هو في السجن أو هو شارد تائه مثل قايين بعد أن فعل فعلته.
الوديع: على مثال يسوع الذي قال: “تعلَّموا منِّي فأنا وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت ١١: ٢٩). والمثل يقول: “الأرض الواطئة تشرب ماءها وماء غيرها.” أمّا الأرض “المترفِّعة” فلا تستفيد حتَّى من مائها. أذكر مرَّة أحدهم آتيًا في طريق ضيِّقة وأطلَّ شابَّان في سيارة مكشوفة. وهجما قائلين: “ارجع”. نزل من السيارة وقال: “أنا لا أعرف أن أرجع والطريق ضيِّقة”. فأخذ الحياء منهما ورجعا إلى الوراء، فمرّ وشكرهما. فقال له أحد أقاربه: “هذان الشابَّان معروفان بـ…، يا ليت السلاح كان في يدي!” ذاك ما تقوله الرؤوس الفارغة والقلوب المتكبِّرة. ولا أفتح الباب على كلام العنف في البيت وبين الجيران والأقارب.
– يتبع –