ذهبنا في رحلة حج منذ حوالي الأسبوعين، إلى كنائس وأديار مصر إنطلاقًا من الإسكندرية مروراً بالقاهرة ثم نزولاً إلى قرى الصعيد وانتهاء عند البحر الأحمر. وكان ختام رحلتنا مسكا” “كيلاً جيداً ملبداً مهزوزاً فائضاً ” مع ديريْ الأنبا بولا والأنبا أنطونيوس.
استيقظنا عند الفجر حتى نتمكّن قبل اشتداد الحرّ، من تسلّق الجبل لزيارة مغارة القديس أنطونيوس التي عاش فيها ناسكاً متقشفاً مصلياً لسنوات طويلة منذ حوالي ١٧٠٠ سنة!
بعد مسيرة دامت حوالي الساعة من دير الأنبا بولا عند البحر الأحمر الى دير الأنبا انطونيوس، وسط أرض صحراوية قاحلة، وصلنا عند طلوع الشمس، أسفل السلّم الحديدي المؤلّف من ١٢٠٠ درجة والذي نصل بواسطته إلى أعلى الجبل الصخري حيث مغارة الأنبا أنطونيوس.
كان الطقس خريفياً معتدلاً والشمس لم تشرق بشكل كامل. فبدأنا بتسلّق السلم بفرح كأننا صاعدين الى السماء. كل واحد منا حمل مسبحته بصمت وخشوع، متمتمًا صلاته الصباحية، في قلب هذه المسيرة المميزة ونحن نعي أن هذه هي أول مرة و ربما تكون آخر مرة نتسلق فيها إلى مغارة القديس.
تعبَتْ بنا الانفاس ونحن نصعد درجة بعدها درجة، سعياً الى هدفنا المنشود. حبة بعدها حبة، نتلو تارةً الأبانا وطوراً اسم يسوع القدوس فتشدّدت أقدامنا وانتعشت أنفاسنا بنعمة الله. ها إننا صاعدون إلى حيث عاش القديس حياةً ملائكية في اتحادٍ حميمي بعريس النشيد، متنّعمًا مغبوطًا بالعشرة الإلهية. إلى حيث أصغى أنطونيوس الى كلمات ليست مثل الكلمات بل من فيض أنوار “الكلمة”، إلى حيث حضرت في نعمة الصمت واتساع الرمال، عجقةُ الملائكة والرسل والشهداء القدّيسين وأم الله الملكة وسكان السماء أجمعين ، ساجدين متهللين أمام عرش النعمة !
لم أشعر بالإرهاق بتاتا” إلا في الدرجات الأخيرة عندما اقتربتُ من نقطة الوصول
لأنّ قلبي سبقَ خطواتي إلى قلب المغارة…
فتوقفتُ للحظات لألتقط أنفاسي و أسجّل عميقًا في الذاكرة ما أنا مقدمةٌ عليه…
وجدتُ نفسي في ساحةٍ رملية واسعة مسيّجة بدرابزين وخالية إلا من صورتين للقديس دوّنت عليها كلمات المديح.
لم ألج المغارة بل جلستُ على حافة صخرية لأرتاح قليلاً ولما قررتُ الدخول أخذتني الدهشة كأنني استيقظت لتوي من النوم وقلت في نفسي: يا فرحي ها هنا كان يعيش القديس أنطونيوس الكبير أبو الرهبان ومؤسّس الحياة الرهبانية!
عادةً أنا لا أحبّ الأماكن الضيقة والمظلمة، لكنني قلتُ في نفسي هذا زمن مقدس وفرصة سماوية لن تتكرر، لأدخل إذن وأعيش هذه اللحظة التاريخية. فخلعتُ نعليّ لأنّ الأرض مقدّسة ودخلتُ. باب المغارة ضيق والسقف منخفض. عليكَ أن تتطأطئ رأسكَ وأن تدخل بشكل جانبي وتمشي أمتارًا قليلة قبل أن تصل إلى مكان سقفه أعلى، ثم تنزل في سلّم درجتين أو ثلاثة فتصل إلى شبه غرفة بالكاد تسعُ شخصين. في البداية لمّا دخلتُ لم أرَ شيئا البتّة لشدة الظلام. فقلتُ أستعمل ضوء الفلاش في الكاميرا وأصوّر ما بداخل المغارة. وهنا كانت المفاجأة لما لمع الضوء أمامي: رأيتُ مذبحاً صغيرًا عليه أيقونة القديس أنطونيوس وأيقونة لوالدة الإله وأيقونة للقديس أنطونيوس والقديس بولا معاً. وفوق المذبح أيقونة محفورة في الصخر للسيد المسيح الضابط الكل، رسم الأيقونة الأثرية نفسها المكتوبة في القرن الرابع والموجودة في دير سانت كاترين في جبل سيناء !
فصرختُ بدهشة : أنتَ ها هنا يا حبيبي؟؟…
منذ بداية زيارتنا لأرض مصر كنت أتمنى زيارة دير سانت كاترين من أجل رؤية هذه الأيقونة بالذات ولكن الظروف لم تسمح بذلك. إلا أنّ الرب الكثير الرحمة والفائق الصلاح، أنعم عليّ بأن رأيت رسم أيقونة تشبهها محفورة في الصخر في مغارة القديس أنطونيوس الكبير!
بقيتُ لدقائق في المغارة رفعتُ فيها صلاة شكر للربّ من القلب بشفاعة مار أنطونيوس ثم خرجتُ حتى أفسح المجال أمام زوار قادمين من أوروبا كانوا بالإنتظار خارجاً.
نزلتُ أدراج العودة وأنا أرتجف من التعب والدهشة والفرح وتوجهنا أنا و رفاقي صوب الدير لنكمل زيارتنا. في اليوم التالي رجعنا الى لبنان بالسلامة وقلوبنا عابقة بمحبة أخوتنا المصريين وممسوحين بزيت البهجة والفرح ! لقد أفاض الرب علينا بإنعاماتٍ لا توصف في أرض مصر الحبيبة المروية بدم الشهداء الأبرار، حيث الإيمان ينمو بالمحبة والرجاء ويثمر بالشهادة حتى الإستشهاد ! هذه الأرض التي التجأت إليها العائلة المقدّسة هرباً من بطش هيرودوس، باركها الرب وقال: مبارك شعبي مصر!
(اش١٩/ ٢٥) “من مصر دعوتُ ابني”! (هو١١/١) هللويا !