Twitter @Space_Station

من جماعات شبكات التواصل الاجتماعي إلى الجماعة البشريّة

رسالة البابا في اليوم العالمي للتواصل الاجتماعي 24 كانون الثاني

Share this Entry

“فإِنَّنا أَعضاءٌ بَعضُنا لِبَعْض” (أف ٤، ٢٥)

 من جماعات شبكات التواصل الاجتماعي إلى الجماعة البشريّة

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

  منذ أن أصبح الانترنت متوفِّرًا، حاولت الكنيسة على الدوام تعزيز استعماله لخدمة اللقاء بين الأشخاص والتضامن بين الجميع. بهذه الرسالة أريد أن أدعوكم مرّة أخرى لنتأمّل حول أساس وأهميّة كوننا في علاقة ولنكتشف مجدّدًا، في اتساع تحديات الإطار التواصلي الحالي، رغبة الإنسان الذي لا يريد أن يبقى في عزلته.

الصورة المستعارة للـ “شبكة” وللـ “جماعة”

  إن البيئة الإعلاميّة هي اليوم مسيطرة لدرجة أنّه لا يمكن تمييزها عن إطار العيش اليومي. الشبكة هي مورد لزمننا. إنها مصدر معرفة وعلاقات كانت متعذِّرة فيما مضى. وفيما يتعلّق بالتحولات العميقة المطبوعة من التكنولوجيا إلى منطق الإنتاج، والانتشار، والاستفادة من المحتويات، يسلّط العديد من الخبراء الضوء أيضًا على المخاطر التي تهدّد البحث عن معلومات حقيقية على صعيد عالمي ومقاسمتها. إن كان الإنترنت يمثل إمكانية مميّزة للحصول على المعرفة، لكنّه صحيح أيضًا أنّه ظهر كأحد الأماكن الأكثر عرضة للتضليل والتشويه الواعي والمتعمِّد للوقائع والعلاقات الشخصيّة التي غالبًا ما تأخذ شكلاً من أشكال النيل من المصداقيّة.

علينا أن نعترف أنَّ شبكات التواصل الاجتماعي، إن كانت تساعد من جهة على خلق مزيد من التواصل بيننا وعلى التلاقي ومساعدة بعضنا البعض، فهي تسمح من جهة أخرى بالتلاعب بالمعلومات الشخصيّة بهدف الحصول على مكاسب على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، دون الاحترام الواجب للإنسان ولحقوقه. وتُظهِر الإحصاءات أنّ شابًّا من بين أربعة يتورّط في حالات من تنمُّر إلكتروني[1].

قد يفيدنا، في هذا المشهد المعقّد، أن نتأمّل حول الصورة المستعارة للشبكة التي وُضِعَت في البداية كأساسٍ للإنترنت، كي نعيد اكتشاف قواها الإيجابية. تدعونا صورة الشبكة للتفكير حول تعدّد المسارات والعقد التي تضمن ثباتها في غياب مركز وهيكليّة تراتبيّة وتنظيم عمودي. إنّ الشبكة تعمل بفضل مشاركة جميع العناصر.

وإذ نضعها في البعد الأنتروبولوجي، تذكّر الصورة المستعارة للشبكة بصورة أخرى غنيّة بالمعاني وهي صورة الجماعة. جماعة تكون أقوى عندما تكون مُتّحدة ومتضامنة، تحرّكها مشاعر الثقة وتعمل من أجل أهداف مشتركة. إنّ الجماعة كشبكة متضامنة تتطلّب الإصغاء المتبادل والحوار القائم على الاستعمال المسؤول للكلام.

من الواضح للجميع كيف أنَّ جماعة شبكة التواصل الاجتماعي، في المشهد الحالي، ليست تلقائيًّا مرادفًا للجماعة. في أفضل الحالات يمكن لجماعات شبكة التواصل الاجتماعي أن تبيّن عن وحدة وتضامن ولكنّها غالبًا ما تبقى مجموعات أفراد يلتقون حول مصالح أو مواضيع تتميّز بالروابط الضعيفة. أضف إلى ذلك أنَّ كثيرًا ما تقوم الهوّية، في الشبكة الاجتماعيّة، على المواجهة مع الآخر ومع الغريب عن المجموعة: فيحدّد المرء ذاته انطلاقًا مما يقسم بدلاً مما يوحِّد، معطيًا المجال للشكّ ولتدفّق جميع أنواع التحيزات (الاثنيّة، الجنسيّة، الدينيّة وغيرها). تغذّي هذه النزعة مجموعات تستثني التباين وتغذّي في الإطار الرقمي، فردانيّة مفرطة تنتهي أحيانًا بإثارة دوّامات من الحقد. وبالتالي تصبح، ما ينبغي عليها أن تكون نافذة على العالم، مجرّد واجهة لعرض نرجسيتهم.

تشكل الشبكة فرصة لتعزيز اللقاء مع الآخرين ولكن يمكنها أيضًا أن تقوّي انعزالنا، كشبكة عنكبوت قادرة على أسر الأشخاص. إن الشبيبة هم الأكثر تعرُّضًا لوهم أنّه بإمكان الشبكة الاجتماعية أن تشبعهم بالكامل على الصعيد العلائقي، وصولاً إلى الظاهرة الخطيرة: ظاهرة شبيبة “نسّاك اجتماعيّين” قد يصبحون غرباء بالكامل عن المجتمع. وتُظهِر هذه الديناميكية المأساويّة شقًّا خطيرًا في نسيج المجتمع العلائقي، جرحًا لا يمكننا تجاهله.

هذا الواقع المتعدّد الأشكال والمضلّل يطرح أسئلة مختلفة ذات طابع أخلاقي واجتماعي وقانوني وسياسي واقتصادي، ويشكّل تحديا للكنيسة أيضًا. وفيما تبحث الحكومات عن سبل تنظيم قانوني لإنقاذ الرؤية الأصليّة لشبكة حرّة منفتحة وآمنة، لدينا جميعا الفرصة والمسؤولية لتعزيز استعمال إيجابيّ لها.

من الواضح أنّه لا يكفي أن نضاعف الاتصالات لكي يزداد أيضًا الفهم المتبادل. كيف يمكننا إذًا أن نجد الهوية الجماعية الحقيقيّة مدركين مسؤوليّتنا تجاه بعضنا البعض حتى في شبكة الانترنت؟

“إنَّنا أَعضاءٌ بَعضُنا لِبَعْض”

من الممكن صياغة إجابة محتملة انطلاقًا من صورة مستعارة ثالثة، صورة الجسد والأعضاء الذي يستخدمها القدّيس بولس للحديث عن علاقة التبادلية بين الأشخاص التي تقوم على العضويّة التي تجمعهم. “ولِذلِك كُفُّوا عنِ الكَذِب ولْيَصدُقْ كُلٌّ مِنكُم قَريبَه، فإِنَّنا أَعضاءٌ بَعضُنا لِبَعْض” (أف 4، 25). إن كوننا أعضاء بعضنا لبعض هو الدافع العميق الذي يحثّ من خلاله بولس الرسول على الكفّ عن الكذب وقول الصدق: فواجب حماية الحقيقة ينبع من الحاجة إلى عدم إنكار علاقة الشركة المتبادَلة. والحقيقة في الواقع تتجلّى في الشركة، أمّا الكذب فهو رفض أنانيّ للاعتراف بالانتماء إلى الجسد؛ هو رفض هِبَة الذات للآخرين، وفقدان السبيل الأوحد بالتالي لأن يجد المرء نفسه.

إن صورة الجسد والأعضاء تقودنا إلى التأمل حول هويّتنا القائمة على الشركة والـغيرية. إننا كمسيحين نعتبر أنفسنا جميعًا أعضاء في الجسد الواحد الذي رأسه هو المسيح. وهذا يساعدنا على عدم رؤية الأشخاص كمنافسين محتملين، بل على رؤية الأعداء أيضًا كأشخاص. ليس هناك بالتالي من حاجة إلى خصمٍ لتحديد الذات، لأن نظرة الدمج التي نتعلمها من المسيح تجعلنا نكتشف الغيرية بشكل جديد، كجزء لا يتجزأ وشرط للعلاقة وللقرب.

إن هذه القدرة على الفهم والتواصل بين الأشخاص تقوم على شركة المحبّة بين الأقانيم الإلهية. فالله ليس وِحدة بل هو شركة؛ هو محبّة، وبالتالي تواصُل، لأن المحبّة تتواصل دائما، لا بل تهب ذاتها من أجل لقاء الآخر. وكي يتواصل الله معنا ويهب ذاته لنا، يتكيّف مع لغتنا، منشئا في التاريخ حوارًا حقيقيًّا مع البشرية. (را. المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي في الوحي الإلهي كلمة الله، 2).

إننا نحمل دومًا في القلب، بحكم كوننا مخلوقين على صورة ومثال الله الذي هو شركة وهبة للذات، حنين العيش في شركة، والانتماء إلى جماعة. “إن لا شيء في الواقع –يقول القدّيس باسيليوس– يميّز طبيعتنا، كالدخول في علاقة مع بعضنا البعض واحتياجنا بعضنا لبعض”[2].

إن السياق الحالي يدعونا جميعاً إلى الاستثمار في العلاقات، والتأكيد أيضًا –في شبكة الإنترنت ومن خلالها– على الطابع العلائقي الذي يميّز بشريّتنا. وبالأحرى، نحن المسيحيون، إننا مدعوّون للتعبير عن هذه الشركة التي تطبع هويتنا كمؤمنين. فالإيمان نفسه هو في الواقع علاقة ولقاء؛ وبفعل دفْع محبّة الله يمكننا أن ننقل، ونقبل ونفهم عطيّة الآخر ونتجاوب معها.

  إن الشركة على صورة الثالوث هي التي تميّز الشخص عن الفرد. ومن الإيمان بالله الذي هو ثالوث، ينتج أني، كي أكون ذاتي، أحتاج إلى الآخر. وأنا بشر حقًّا، وشخصيّ حقًّا، فقط إذا تواصلت مع الآخرين. إن عبارة شخص، تصوّر الكائن البشري على أنه “وجهٌ”، موجّه نحو الآخر، ويشارك الآخرين. وحياتنا تنمو في الإنسانية عبر الانتقال من الطابع الفرديّ إلى الطابع الشخصيّ؛ وتنتقل المسيرة الأصيلة للأنسنة، من الفرد الذي ينظر إلى الآخر كخصم، إلى الشخص الذي يرى فيه رفيق الدرب.

من الـ “إعجاب” إلى الـ “آمين”

تذكّرنا صورة الجسد والأعضاء بأنّ استخدام الشبكة الاجتماعية هو مكمّل للقاء الشخصي الذي يحيا من خلال جسد الآخَر وقلبه وعينَيه، ونظرته ونَفَسه. وإذا استُخدِمت الشبكة كامتداد أو انتظار لهذا اللقاء، فهي لا تخون نفسها وتبقى مصدرًا للشركة. وإذا استخدَمت عائلةٌ الشبكة لتكون أكثر ترابطًا، لتلتقي من ثم حول المائدة وتنظر في عيون بعضها البعض، فهي مورد. وإذا نسّقت جماعة كنسيّة نشاطها من خلال الشبكة، لتحتفل من ثم بالافخارستيا معا، فهي مورد. وإذا كانت الشبكة فرصة لأتقرّب من قصص وخبرات جميلة أو مؤلمة، بعيدة عني جسديًا، للصلاة معًا، وللبحث معًا عن الخير، عبر إعادة اكتشاف ما يجمعنا، فهي مورد.

ونستطيع بهذه الطريقة أن ننتقل من التشخيص إلى العلاج: فنفتح الطريق للحوار واللقاء والابتسامة والملاطفة… هذه هي الشبكة التي نريدها. شبكة لا تهدف إلى أسْرِ الأشخاص، إنما إلى تحرير وحماية شركة أشخاص أحرار. إن الكنيسة نفسها هي شبكة تنسجها الشركة الافخارستية، حيث الاتّحاد لا يقوم على الـ “like” (الإعجاب)، بل على الحقيقة، على الـ “آمين” التي بها يتّحد كلّ واحد بجسد المسيح، مستقبلاً الآخَرين.

الفاتيكان، ٢٤ كانون الثاني يناير ٢٠١۹

 


 

[1] للحدّ من هذه الظاهرة، سيتم إنشاء مرصد دولي ضدّ التنمر عبر الإنترنت، مقره الأساسيّ في الفاتيكان.

[2] قواعد واسعة، III،1: الآباء اليونان 31، 917؛ را. بندكتس السادس عشر، رسالة اليوم العالمي الثالث والأربعين للتواصل الاجتماعي (2009).

 

Share this Entry

Staff Reporter

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير