قداسة البطريرك، أيّها الأخ العزيز، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء!
أودّ أن أعرب عن امتناني وتأثّري لوجودي في هذا المعبد المقدّس الذي يجمعنا بالوحدة. لقد دعا يسوع الأخوين أندراوس وبطرس إلى ترك الشباك كي يصبحا سويًّا صيّادي بشر (را. مر 1، 16- 17). إن الدعوة الخاصّة ليست كاملة بدون دعوة الأخ. نريد اليوم أن نرفع، جنبًا إلى جنب، من قلب البلد، صلاة “الأبانا”. فهي تحتوي على هويّتنا كأبناء، واليوم بشكل خاصّ، كإخوة يصلّون بجانب بعضهم البعض. تحتوي صلاة الـ “أبانا” على اليقين بالوعد الذي قطعه يسوع لتلاميذه: “لن أَدَعَكم يَتامى” (يو 14، 18) وتعطينا الثقة كي ننال ونقبل عطيّة الأخ[1]. لذا أودّ أن أشارككم ببعض الكلمات تحضيرًا للصلاة، التي سوف أتلوها من أجل مسيرة الأخوّة وكيما تكون رومانيا على الدوام بيتًا للجميع، وأرضًا للقاء، وحديقة تزهر فيها المصالحة والشركة الكنسية.
في كلّ مرّة نقول فيها “أبانا” نعيد التأكيد على أنه لا يمكن قول كلمة أب دون أن نقولها بصيغة الجمع كأبناء، أبانا. متّحدون في صلاة يسوع، نتّحد أيضًا في خبرة محبّته وشفاعته التي تقودنا إلى القول: أَبي وأَبيكُم، وإِلهي وإِلهِكُم (را. يو 20، 17). إنها دعوة لأن نحوّل فيها “ما هو لي” إلى “ما هو لنا” وأن يصبح “ما هو لنا” صلاة. ساعدنا، أيها الآب، على أن نأخذ حياة أخينا على محمل الجدّ، وأن نتبنّى قصّته. ساعدنا أيها الآب على ألّا نحكم على أخينا بسبب تصرّفاته ومحدوديّته، بل أن نقبله أوّلاً كابنٍ لك. ساعدنا في التغلب على الميل إلى اعتبار أنفسنا الأبناء الأكبر، الذين، من كثرة وجودهم في المحور ينسون هبة الآخر (را. لو 15. 25- 32).
نطلب منك، أنت الذي في السماوات، السماوات التي تعانق الجميع وحيث تشرق الشمس على الأخيار والأشرار، وعلى المنصفين والظالمين (را. متى 5، 45)، ذاك الوئام الذي لم نتمكّن من الحفاظ عليه في الأرض. نطلبه بشفاعة الكثير من الإخوة والأخوات في الإيمان الذين يسكنون سماءك معًا بعد أن آمنوا وأحبّوا وعانوا الكثير، حتى في أيّامنا هذه، فقط بسبب كونهم مسيحيّين.
نحن أيضًا نريد مثلهم، أن نقدّس اسمك، فنجعله في محور اهتماماتنا. ليكون اسمك، يا ربّ، وليس اسمنا هو الذي يحرّكنا ويوقظنا في ممارستنا للمحبّة. كم من مرّة، في صلاتنا، نكتفي بطلب الهبات وسرد قائمة الطلبات، متناسين أن أهمّ شيء هو تسبيح اسمك، وعبادة شخصك، كيما نتعرّف على انعكاسك الحيّ في شخص الأخ الذي وضعته بقربنا. وسط العديد من الأمور التي تمرّ والتي نناضل من أجلها، ساعدنا، أيها الآب، في البحث عمّا يدوم: حضورك وحضور أخينا.
نحن بانتظار مجيء ملكوتك: نطلبه ونتوق إليه لأننا نرى أن ديناميكيات العالم لا تنقاد له. فهي ديناميكيات يوجّهها منطق المال، والمصالح، والسلطة. ساعدنا، أيها الآب، فيما ننغمس في استهلاكية تزداد مبالغة، تسحرنا بوهجها اللامع إنما الزائل، على أن نؤمن بما نصلّي: أن نتخلّى عن ضمانات السلطة المريحة، وإغراءات الدنيوية الخادعة، والادّعاء الفارغ باعتقادنا مكتفين ذاتيًّا، وريائنا في عنايتنا بالمظاهر. فلا نغفل بهذه الطريقة عن ذاك الملكوت الذي تدعونا إليه.
لتكن مشيئتك، لا مشيئتنا. “إنّ الله يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ” (القدّيس جوفاني كسيانو عظات روحية، IX، 20). نحن بحاجة أيها الآب، إلى توسيع آفاقنا، حتى لا نقيّد بمحدوديّتنا إرادتك الخلاصيّة الرحيمة، التي تريد معانقة الجميع. ساعدنا، أيها الآب، وأرسل إلينا روحك القدّوس، كما حدث يوم العنصرة، مصدر الشجاعة والفرح، كيما يحثّنا على إعلان بشارة الإنجيل خارج حدود انتمائنا ولغاتنا وثقافاتنا ودولنا.
إننا بحاجة إليه يوميًّا، خُبْز يَومِنا. إنه خبز الحياة (را. يو 6، 35. 48)، الذي يجعلنا نشعر بأننا أبناء محبوبون ويشبع وحدتنا ويتمنا. إنه خبز الخدمة: كسر ذاته كي يصير خادمًا لنا، ويطلب منا أن نخدم بعضنا بعضاً (را. يو 13، 14). أيها الآب، فيما تعطينا الخبز اليومي، غذّي فينا الشوق لأخينا، والحاجة لخدمته. وإذ نطلب الخبز اليومي، نسألك أيضًا خبز الذاكرة، والنعمة لتقوية الجذور المشتركة لهويتنا المسيحية، الجذور التي لا غنى عنها في زمن تكاد فيه البشرية، والأجيال الشابّة على وجه الخصوص، أن تشعر بفقدان جذورها، وسط الكثير من الأوضاع التي تفتقر للثبات، غير قادرين على تأسيس حياتهم. عسى أن يوقظفينا الخبزُ الذي نطلبه، بقصّته الطويلة التي تمتدّ من البذر إلى السنبلة، ومن الحصاد إلى المائدة، الرغبةَ في أن نكون مُبذري الشركة الصبورين، الذين لا يتعبون أبدًا من جعل بذور الوحدة تنمو، ومن جعل الخير يختمر، وفي أن نعمل دائمًا بقرب أخينا: دون شكوك ودون مسافات، دون إجبار ودون تجانس، وفي تعايش الاختلافات المتصالحة.
إن الخبز الذي نطلبه اليوم هو أيضًا الخبز الذي يُحرم منه الكثيرون كلّ يوم، في حين أنه يفيض لدى القليل منهم. إن صلاة الـ “أبانا” ليست صلاة تهدئة، إنها صرخة أمام مجاعات المحبّة في زماننا، إزاء الفردية واللامبالاة التي تدنّس اسمك، أيها الآب. ساعدنا في أن نجوع إلى بذل أنفسنا. وذكّرنا، في كلّ مرّة نصلّي، أننا، كي نعيش، لا نحتاج إلى الحفاظ على أنفسنا، بل إلى كسر أنفسنا؛ إلى المشاركة، لا إلى جمع المقتنيات؛ إلى إطعام الآخرين أكثر من ملء أنفسنا، لأن الرفاهية لا تكون إلّا إذا كانت للجميع.
في كلّ مرّة نصلّي نطلب مغفرة خطايانا. وهذا يتطلّب الشجاعة، لأننا في الوقت نفسه نُلزِم أنفسنا بالعفو عن إساءات الآخرين إلينا. لذلك، يجب أن نجد القوّة لنغفر لأخينا من صميم القلب (را. متى ١٨، ٣٥) كما أنت، أيها الآب، تغفر خطايانا: أن نترك الماضي خلفنا ونعانق الحاضر معًا. ساعدنا، أيها الآب، على عدم الاستسلام للخوف، وعلى عدم رؤية الخطر في الانفتاح؛ وعلى أن تكون لنا القدرة على التسامح والسير، والشجاعة حتى لا نكتفي بحياة مطمئنّة، بل نبحث دومًا، بشفافيّة وأمانة، عن وجه الأخ.
وعندما يحثّنا الشرّ، الرابض على باب القلب (را. تك ٤، ٧)، على الانغلاق في أنفسنا؛ عندما يزداد الميلُ إلى عزل أنفسنا، حاجبًا جوهر الخطيئة، التي هي بعدٌ عنك وعن قريبنا، ساعدنا أيضًا، أيها الآب. شجّعنا على أن نجد في الأخ ذاك الدعم الذي جعلته بقربنا كي نسير نحوك، وأن تكون لنا الشجاعة لنقول معاً: “أبانا”. آمين.
لنتلوَ الآن الصلاة الربّانيّة.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2019
[1] Cfr Quando pregate dite Padre nostro, con Marco Pozza, Rizzoli 2017, 23.