في الإنجيل اليوم، فاجأ يسوع بكلامه معاصريه كما يفاجئنا نحن أيضًا. في الواقع، هم امتدحوا جمال الهيكل وروعته. أما هو فقال: إنه لن يُترك منه “حَجَرٌ على حَجَر” (لو 21، 6). لماذا قال يسوع ذلك الكلام في هذا المكان المقدس، والذي لم يكن مجرد بناء فخم، بل كان رمزًا دينيًّا فريدًا من نوعه، وهو بيت الله وبيت الشعب المؤمن؟ لماذا ذلك الكلام؟ لماذا تتنبأ بأن هذا الضمان المتين لشعب الله سوف ينهار؟ لماذا، في النهاية، يترك الرب يسوع أن تنهار مثل هذه الضمانات، ويبقى العالم مفتقرًا إليها؟
لنبحث عن إجابات من خلال كلمات يسوع. إنه يقول لنا إن كل شيء تقريبًا يزول. كل شيء تقريبًا، ولكن ليس كل شيء. في هذا الأحد ما قبل الأخير من الزمن العادي، يوضح يسوع أن الأمور التي تنهار هي الأشياء قبل الأخيرة، وليس الأخيرة: الهيكل سيزول، وليس الله؛ الممالك ستزول وتقلبات تاريخ الإنسانية، وليس الإنسان. ستمر الأشياء ما قبل الأخيرة، والتي غالبًا ما تبدو نهائية، لكنها ليست كذلك. إنها أمور عظيمة، مثل معابدنا، أو مخيفة، مثل الزلازل، والعلامات في السماء والحروب على الأرض (را. الآيات 10-11): تبدو كأنها عناوين للصفحات الأولى، لكن يسوع المسيح يضعها في الصفحة الثانية. في الصفحة الأولى يبقى ذلك الذي لن يمر أبدًا: الله الحي، الذي هو الأعظم، وبصورة غير محدودة، من كل هيكل نبنيه، وكذلك الانسان، أي قريبنا، وهو أثمن وأهم من جميع الأحداث التي تحدث في العالم. ثم لمساعدتنا على فهم ما يهم في الحياة، يحذرنا يسوع من تجربتين.
التجربة الأولى هي العجلة، أو “النتيجة الفورية”. بالنسبة ليسوع يجب ألا نتبع أولئك الذين يقولون إن النهاية ستأتي على الفور، وأنه “قد حان الوقت” (آية 8). بمعنى آخر، يجب عدم اتباع من ينشرون الذعر ويغذون الخوف من القريب ومن المستقبل، لأن الخوف يشل القلب والعقل. ومع ذلك، كم مرة نسمح لأنفسنا بأن ننخدع بتجربة العجلة فنريد أن نعرف كل شيء وعلى الفور، أو بدافع الفضولية، ومعرفة آخر الأخبار الصادمة أو الفاضحة، والقصص المعكرة، وصرخات أولئك الذين يصرخون بصوت أعلى وأكثر غضبًا، ومن يقولون: “الآن وإلا أبدًا”. لكن هذه العجلة، والرغبة في كل شيء وعلى الفور، لا تأتي من عند الله. نندفع مع العجلة، وننسى ما يبقى إلى الأبد: نلاحق السحب التي تمر ونفقد منظر السماء. نظل منجذبين إلى آخر الأخبار، ولا يبقى لدينا الوقت الكافي لله وللأخ الذي يعيش في جوارنا. كم هذا صحيح اليوم أيضًا! نريد أن نركض، وأن نمتلك كل شيء وعلى الفور، وننظر بانزعاج إلى من يبقون في الخلف، ونعتبرهم أمرًا لا فائدة له: كم من المسنين، وكم من الأجّنة التي ستولد، وكم من المعوقين، والفقراء الذين نعتبرهم بلا فائدة. الكل يسرع، ولا ننتبه إلى أن المسافات بين الناس تزداد، وأن جشع القليلين يزيد من فقر الكثيرين.
يسوع، يقدم لنا الثبات كمضاد للعجلة: “إِنَّكم بِثَباتِكُم تكتَسِبونَ أَنفُسَكم” (آية 19). الثبات هو أن نتقدم كل يوم وعيوننا مركزة على من لا يزول: الرب والقريب. هذا هو السبب في أن الثبات هو هبة من الله، بها نحافظ على جميع مواهب الله (را. القديس أغسطين، هبة الثبات، 2، 4). لنطلب لكل واحد منا، ولنا ككنيسة، أن نثبت في الخير، وألا نغفل عمَّا هو مهم. هذا هو ضلال العجلة.
هناك ضلال ثان يريد يسوع أن يبعدنا عنه، عندما يقول: “فسَوفَ يأتي كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ مُنتَحِلينَ اسمي فيَقولون: أَنا هُو! (…). فلا تَتبَعوهم “(آية 8). إنها تجربة الأنا. المسيحي، بكونه لا يسعى نحو الأمور الفورية بل الباقية، كذلك ليس تلميذًا “للأنا”، بل “للأنت”. إنه لا يتبع صفارات الإنذار المنطلقة من أهوائه، بل يتبع نداء المحبة، يتبع صوت يسوع. وكيف نميز صوت يسوع؟ يقول الرب يسوع: “فسَوفَ يأتي كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ مُنتَحِلينَ اسمي”، لكن يجب ألا نتبعهم. لا يكفي أن تحمل اسم “مسيحي” أو “كاثوليكي” لتكون مع يسوع. بل يجب أن تتكلم بنفس لغة يسوع، أي لغة المحبة، لغة “الأنت”. الذي يتلكم بلغة يسوع لا يقول أنا، بل يخرج من “الأنا”. ومع ذلك، كم من المرات، حتى في عمل الخير، يسود نفاق الأنا: أفعل الخير ولكن لكي أُعتبر إنسانًا صالحًا؛ أعطي ولكن لكي أتلقي بالمقابل؛ أساعد ولكن لأكتسب صداقة شخص مهم. هذا هو الكلام بلغة الأنا. كلمة الله، بدلًا من ذلك، تحثنا على “المَحبَّة بِلا رِياء” (روم 12، 9)، أي أن نعطي أولئك الذين لن يكافئونا (را. لو 14، 14)، أن نخدم بدون أن نبحث عن المكافآت أو عن أي تعويض (را. لو 6، 35). بعد ذلك، يمكننا أن نسأل أنفسنا: “هل أنا أساعد شخصًا لن أتلقى منه شيئًا بالمقابل؟ أنا المسيحي، هل لديّ على الأقل صديق واحد فقير؟”.
الفقراء عزيزون في عين الله لأنهم لا يتكلمون بلغة الأنا، لأنهم لا يعتمدون على أنفسهم، وعلى قوتهم الخاصة، فهم بحاجة إلى من يأخذ بيدهم. إنهم يذكروننا بأن الإنجيل يُعاش هكذا، مثل متسولين نمدُّ أيدينا إلى الله. إن وجود الفقراء يعيدنا إلى جو الإنجيل، حيث إنهم مباركون لأنهم فقراء في الروح (را. متى 5، 3). إذاك بدلاً من الشعور بالانزعاج عندما نسمعهم يطرقون أبوابنا، يمكننا أن نستجيب لصرختهم طلبًا للمساعدة، ونعتبر نداءهم موجها إلينا للخروج من الأنا، وللترحيب بهم بنفس نظرة حب الله لهم. كم يكون جميلًا لو احتل الفقراء في قلوبنا المكان الذي لهم في قلب الله! عندما نكون مع الفقراء، وعندما نخدمهم، نتعلم ماذا يحب يسوع، ونفهم ماذا يبقى وماذا يمر.
نعود إلى الأسئلة الأولى. من بين الأشياء الكثيرة قبل الأخيرة التي تمر، يريد الرب يسوع أن يذكّرنا اليوم بالأمر الأخير، الذي سيبقى إلى الأبد. إنها المحبة، لأن “اللّهَ مَحبَّة” (1 يو 4، 8). الفقير الذي يطلب محبتي يقودني مباشرة إلى الله. الفقراء يسهلون علينا الوصول إلى السماء: لهذا فإنّ حس الايمان لدى شعب الله رأى في الفقراء “حراسًا لباب السماء”. إنهم الآن كنزنا، وكنز الكنيسة. في الواقع، إنهم يُظهرون لنا الثراء الذي لا يهرم أبدًا، الثراء الذي يربط الأرض والسماء والذي يستحق أن نعيش من أجله: أي المحبة.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2019
© Copyright – Libreria Editrice Vaticana