صاحب النيافة،
إخوتي في الأسقفية،
ممثّلي مختلف الطوائف الدينيّة المحترمون،
ممثّلي المجتمع الجامعي،
أيها الأصدقاء الأعزاء!
شكرًا على ترحيبكم الحارّ. أشكر الأسقف سيريسوت والدكتور بونديت إيوا آربورن على كلماتهما اللطيفة. كما أشكر على دعوتي لزيارة هذه الجامعة الشهيرة والطلاب والمعلّمين والموظّفين، الذين يحيون هذه المؤسّسة التعليميّة، كما وعلى إعطائي الفرصة لمقابلة ممثّلين عن الطوائف المسيحيّة المختلفة وقادة الأديان الأخرى الذين يشرفّنا حضورهم. أعرب عن امتناني لحضوركم، وتقديري الخاص للتراث الثقافي القيّم والتقاليد الروحيّة التي أنتم لها أبناء وشهود.
منذ مائة واثنين وعشرين عامًا، في عام 1897، زار الملك شولالونغكورن -الذي تحمل اسمه هذه الجامعة الأولى- روما، واستقبله البابا ليون الثالث عشر: كانت هذه هي المرّة الأولى التي استُقبِل فيها رئيس دولة غير مسيحيّ في الفاتيكان. إن ذكرى ذلك اللقاء المهمّ، وذلك العهد، الذي تميّز، من بين المزايا العديدة، بإلغاء العبوديّة، تستحثّنا وتحفّزنا على لعب دور أساسيّ في طريق الحوار والتفاهم المتبادل. وينبغي أن يتمّ هذا بروح من الالتزام الأخوي يساعد على وضع حدّ لأشكال عديدة من الاستعباد التي ما زالت موجودة في يومنا هذا، وأفكّر بشكل خاص بآفة الاتّجار بالبشر.
إن الحاجة إلى الاعتراف والتقدير المتبادلين، وكذلك التعاون بين الأديان، هي أكثر إلحاحًا بالنسبة للبشريّة الحاليّة؛ فعالم اليوم يواجه مشاكل معقّدة، مثل العولمة الاقتصاديّة-الماليّة وعواقبها الخطيرة في تنمية المجتمعات المحلّية؛ ويتعايش التطوّر السريع -الذي يَعِد ظاهريًّا بعالم أفضل- مع الاستمرار المأساوي للنزاعات الأهليّة: مهاجرين ولاجئين ومجاعات وحروب؛ وأيضًا مع تدهور حالة “بيتنا المشترك” وتدميره. كل هذه الحالات تنبّهنا وتذكّرنا بأنه لا يمكن التفكير في أيّ منطقة أو قطاع من أسرتنا البشرية أو بنائها على أنها غريبة عن الآخرين أو محصّنة ضدّهم. وهذه كلّها أوضاعٌ تتطلّب منّا أن نغامر بدورنا في نسج طرق جديدة لبناء التاريخ الحالي دون الحاجة إلى تشويه سمعة الآخرين أو عدم احترامهم. فقد انتهى الزمن حيث يمكن أن يسود منطق العزلة في تصوّر الزمان والمكان، وأن يُفرض كآلية صالحة لحلّ النزاع. اليوم هو زمن الإقدام على تصوّر ثقافة الحوار كدرب، والتعاون المشترك كسلوك، والتعارف المتبادل كنهج ومعيار؛ فنقدّم بهذه الطريقة، نموذجًا جديدًا لحلّ الصراعات والمساهمة في التفاهم بين الناس وحماية الخَلق. أعتقد أن الأديان، في هذا المجال، وكذلك الجامعات، تملك الكثير مما تستطيع تقديمه والمساهمة به، دون التخلّي عن ميزاتها الأساسيّة ومواهبها الخاصّة؛ كلّ ما نفعله في هذا الصدد هو خطوة هامّة لضمان حقّ الأجيال الصاعدة في المستقبل، وهو أيضًا خدمة للعدالة والسلام. وبهذه الطريقة فقط، سوف نوفّر لهم الوسائل اللازمة حتى يلعبوا هم الدور الرئيسيّ في طريقة خلق أنماط حياة مستدامة وشاملة.
Université et leaders religieux, Bangkok, Thaïlande © Vatican Media
إن هذا الزمن يتطلّب منّا أن نبنيَ أسسًا صلبة، ترتكز على احترام كرامة الناس والاعتراف بها، وعلى تعزيز إنسانيّة متكاملة قادرة على الاعتراف ببيتنا المشترك والمحافظة عليه؛ وعلى إدارة مسؤولة، تحافظ على جمال وعلى وفرة الطبيعة كحقّ أساسيّ في الوجود. والتقاليد الدينية العظيمة في عالمنا بيّنت عن تراث روحي، متسامي ومشترك على نطاق واسع، قادر على أن يقدّم مساهمات قويّة في هذا الصدد، شرط أن ألّا نخاف من أن نلتقي.
إننا جميعًا مدعوّون، ليس فقط إلى إيلاء اهتمام بصوت الفقراء في بيئتنا: المهمّشين والمضطهدين والسكّان الأصليّين والأقلّيات الدينيّة، ولكن أيضًا إلى عدم الخوف من إطلاق مبادرات، وقد بدأت بالنموّ بشكل خجول، حيث يمكننا أن نتّحد ونعمل معًا. في الوقت عينه، يُطلب منّا تبنّي الدفاع عن كرامة الإنسان واحترام حرّية الضمير والحرّية الدينية، وخلق مساحات نقدّم فيها بعض الهواء النقي ونحن على يقين أننا “لم نخسر بعد كلّ شيء، لأن البشر، القادرون على الانحطاط إلى أقصى الحدود، هم أيضًا قادرون على تخطّي ذواتهم والعودة من جديد لاختيار الخير، والتجدّد، لدرجة تتخطّي أي تكيّف عقلي واجتماعي يُفرض عليهم” (الرسالة العامة كن مسبّحا، 205).
Université et leaders religieux, Bangkok, Thaïlande © Vatican Media
أودّ أن أشير، هنا في تايلاند، البلد الذي يتمتّع بجمال طبيعيّ رائع، إلى ميزة خاصّة أعتبرها أساسيّة، وهي إلى حدّ ما جزء من الغنى الذي يجب “تصديره” والمشاركة به مع مناطق أخرى من عائلتنا البشرية. إنكم تقدّرون وتهتمّون بمسنّيكم –وهذا غنًى عظيم!-، وتحترمونهم وتمنحونهم مكانة رفيعة، ممّا يضمن لكم الجذور اللازمة، حتى لا يذبل شعبكم خلف شعارات معيّنة تقود إلى إفراغ روح الأجيال الصاعدة ورهنها. إننا نرى أيضًا، إضافة إلى الميل المتزايد لتشويه القيم والثقافات المحلّية، من خلال فرض نموذج واحد، “ميلًا إلى «تجانس» الشبيبة، وإلى إلغاء الاختلافات الخاصّة ببلد منشئهم، وإلى تحويلهم إلى كائنات قابلة للتلاعب، مصنوعة في سلسلة. وينتج عن هذا الأمر تدمير ثقافيّ، وهو أمر خطير للغاية، تعادل خطورته خطورة انقراض الأنواع الحيوانية والنباتية” (الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس المسيح يحيا، 186). استمروا في حثّ الشبيبة على معرفة التراث الثقافي في المجتمع الذي يعيشون فيه. إن مساعدة الشبيبة على اكتشاف الغنى الحيّ لماضيهم، وعلى أن يلتقوا بجذورهم عبر الذاكرة، وعلى أن يلتقوا بالمسنّين، هي عمل محبّة حقيقيّ تجاههم، بالنظر إلى نموّهم والقرارات التي يجب عليهم اتّخاذها (را. نفس المرجع، 187).
كلّ هذا المنظور يُشرِك بالضرورة دور المؤسّسات التعليمية مثل هذه الجامعة. البحث والمعرفة يساعدان على فتح طرق جديدة للحدّ من التباين بين الناس، وعلى تعزيز العدالة الاجتماعية والدفاع عن كرامة الإنسان، والبحث عن طرق لتسوية النزاعات بالوسائل السلمية والحفاظ على الموارد التي تبعث الحياة في أرضنا. أتوجّه بالشكر بشكل خاصّ للمعلّمين والأكاديميّين في هذا البلد الذين يعملون لتزويد الأجيال الحاضرة والمستقبليّة بالمهارات، وقبل كلّ شيء، بحكمة جذور الأجداد التي ستسمح لهم بالمشاركة في تعزيز الخير العام للمجتمع.
أيها الإخوة الأعزّاء، نحن جميعًا أعضاء في الأسرة البشريّة، وكلّ منّا، من مركزه، مدعوّ لأن يكون عاملًا ومسؤولًا مباشرًا في بناء ثقافةٍ تقوم على القيم المشتركة التي تقود إلى الوحدة والاحترام المتبادل والتعايش المتناغم.
Université et leaders religieux, Bangkok, Thaïlande © Vatican Media
أشكركم مجدّدًا على دعوتكم واهتمامكم. أقدّم صلاتي وأطيب تمنياتي لجهودكم، التي تهدف إلى خدمة تنمية تايلاند في الازدهار والسلام. وألتمس لكم ولأسركم وللأشخاص الذين تخدمونهم، البركة الإلهيّة. وأطلب منكم، من فضلكم، أن تلتمسوها لي أيضًا.
شكرًا جزيلًا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2019
© Copyright – Libreria Editrice Vaticana