أصدقائي الأعزّاء، صباح الخير!
أنا سعيد جدًا لوجودي معكم ولو لبضع دقائق في نهاية زيارتي الرسولية، قبل مغادرة اليابان والعودة إلى روما. إنه الوداع.
كانت إقامتي في هذا البلد قصيرة ولكن مكثّفة. أشكر الله وكلّ الشعب الياباني على الفرصة التي أتيحت لي لأزور هذا البلد، الذي ترك أثرًا بالغًا في حياة القدّيس فرنسيس كسافاريوس، وحيث قدّم الكثير من الشهداء شهادةً لإيمانهم المسيحي. على الرغم من أن المسيحيّين أقلّية، لكن لهم حضور ملموس. أنا شخصيًّا أشهد على الاحترام العام للكنيسة الكاثوليكية، وأرجو أن يزداد هذا الاحترام المتبادل في المستقبل. لاحظت أيضًا أنه على الرغم من الفعالية في العمل والنظام اللذين يميّزان المجتمع الياباني، أنه مجتمع يرغب ويبحث عن المزيد: لديه رغبة عميقة بخلق مجتمع أكثر إنسانية، وأكثر حنان وأكثر رحمة.
الدراسة والتأمّل هما جزء من كلّ ثقافة، وثقافتكم اليابانية تفتخر بتراثها القديم والغني. استطاع اليابان أن يستوعب ديانات آسيا وفكرها بمجملها وأن يخلق منها ثقافةً تتمتّع بهويّة خاصّة. تُعدّ مدرسةأشيكاغا، التي أثارت إعجاب القدّيس فرنسيس كسافاريوس، مثالًا على قدرة الثقافة اليابانية على استيعاب المعرفة ونقلها. وما زالت مراكز الدراسة والتأمّل والبحث تلعب دورًا مهمًّا في ثقافة اليوم. لهذا السبب، من الضروريّ أن تحافظ على استقلاليّتها وحرّيتها، كضمان لمستقبل أفضل. بما أن الجامعات هي المكان الرئيسي التي يتمّ فيها تنشئة قادة المستقبل، يجب أن تُلهِمَ المعرفةُ والثقافةُ بكلّ اتّساعها جميعَ جوانب المؤسّسات التربوية، فتجعلها أكثر شمولًا وقادرة على توليد الفرص والتقدّم الاجتماعي.
الحكمة. كان الإنسان دائمًا بحاجة إلى الحكمة الحقيقية لإدارة وتنمية طاقاته بطريقة بنّاءة وفعّالة. في مجتمعنا التنافسيّ وذات التوجّه التكنولوجي، يجب أن تكون هذه الجامعة ليس فقط مركزًا للتنشئة الفكرية، بل أيضا مكانًا لتكوين مجتمع أفضل ومستقبل مليء بالرجاء. انطلاقًا من روح الرسالة العامة “كُنْ مُسَبَّحًا”، أودّ أن أضيف أن محبّة الطبيعة، وهي مِيزة الثقافات الآسيوية، يجب أن تظهر عبر اهتمامٍ بحماية الأرض، بيتنا المشترك، يتميّز بالذكاء والاستباق. هذا الاهتمام يجب أن تعزّزه “معرفة” جديدة، قادرة على توسيع ومناقشة كلّ محاولة اختزال من قِبَلِ النموذج التكنولوجي (را. 106-114). يجب ألّا ننسى أن “الإنسانية الأصيلة، التي تدعوّ إلى تكوين صيغة جديدة، تبدو غارقة في وسط الحضارةِ التكنولوجية بصورة خفيّة مثل الضباب الذّي يتسرّب من تحت باب مغلق. هل تبقى التكنولوجيا دائمًا وعدًا، يبرز بالرغم من كلّ شيء، مثل مقاومة عنيدة لكلّ ما هو أصيل؟” (را. نفس المرجع، 112).
لقد تميّزت جامعة الحكمة دائمًا بهويّتها ذات الطابع الإنساني والمسيحي والدولي. واغتنت منذ تأسيسها، بخبرة أساتذة من مختلف البلدان، وأحيانًا حتى من بلدان متصارعة فيما بينها. ومع ذلك، فقد وحدّت بين الجميع الرغبة في تقديم الأفضل لشباب اليابان. وما زالت هذه الروح نفسها أيضًا قائمة في الطرق المختلفة التي تقدّمون بها المساعدة لمَن يحتاجها، هنا وفي الخارج. أنا متأكّد من أن هذا الجانب من هويّة جامعتكم سيزداد قوّة دائمًا، بحيث يمكن وضع التطوّرات التكنولوجية العظيمة اليوم في خدمة تربية أكثر إنسانيّة وأكثر عدلًا كما وتربية بيئيّة مسؤولة. على التقليد الأغناطي (للقديس أغناطيوس)، الذي تقوم عليه جامعة الحكمة، أن يحفّز المعلّمين والطلّاب على حدّ سواء، على خلق جوّ يشجّع على التفكير والتمييز. لا يجب أن يتخرّج أيّ طالب من هذه الجامعة دون أن يتعلّم كيف يختار، بمسؤولية وحرّية، ما يعرف بحسب ضميره أنه الأفضل. في كلّ الحالات، حتى في الحالات الأكثر تعقيدًا، أرجو أن تهتمّوا في سيرتكم لكلّ ما هو عادل وإنسانيّ وصادق ومسؤول، فتكونوا مدافعين حازمين عن المستضعفين، وعسى أن تُعرَفوا بهذه النزاهة الضرورية جدًا في أيامنا، حيث كَثُر الزيف والتضليل في الكلام والأفعال.
تبيّن الأولويّات الرسوليّة الشاملة التي تقدّمها الرهبنة اليسوعيّة، أن مرافقة الشباب هو أمر مهمّ في جميع أنحاء العالم، وأن جميع المؤسّسات اليسوعية يجب أن تشجّع على هذه المرافقة. ويبيّن السينودس للشباب ووثائقه، أن الكنيسة الجامعة أيضًا تنظر برجاء واهتمام إلى الشباب في كلّ العالم. وجامعتكم أيضًا مدعوّة بجملتها إلى التركيز على الشباب، الذين لا يجب أن يستفيدوا فقط من تعليم متميّز، بل أن يكونوا شركاء فيه، فيقدّموا أفكارهم ويشاركوا في رؤاهم وآمالهم من أجل المستقبل. أرجو أن تُعرَف جامعتكم بهذا النهج من المشاركة والمقارنة وبما ينجم عنه من غنى وحيويّة.
التقليد المسيحي والفكر الانساني في جامعة الحكمة يّتفقان مع الأوليّات التي ذكرتها أعلاه، أي الاهتمام بالفقراء والمهمّشين في عالمنا. فيما تركّز الجامعة اهتمامها على رسالتها، يجب أن تكون في الوقت نفسه منفتحة على تكوين شبكة قادرة على إنشاء روابط مع ما يُعتبر منفصلًا أو مهمّشا، من الناحية الاجتماعيّة أو الثقافيّة. فيتمّ إشراك المهمّشين ودمجهم بطريقة خلّاقة في مناهج الجامعة، في محاولة لتهيئة الظروف اللازمة لترجمة ذلك إلى أسلوب تعليمي قادر على الحدّ من الفجوات والمسافات.إن الدراسة الجامعية الجيّدة، بدلًا من اعتبارها امتيازًا لعدد قليل، يجب أن تكون مصحوبةً بالوعي بأن الطلّاب هم خدَّام للعدالة والخير العام. ويجب تقديم هذه الخدمة في المجال الذي كلّ واحد مدعوّ لتطويره. هذه قضيّة تهمّنا جميعًا. نصيحة بطرس لبولس لا تزال صالحة اليوم: لا ننسَ الفقراء (را. غلا 2، 10).
أعزّائي الشبيبة، أعزّائي الأساتذة، وأنتم جميع العاملين في جامعة الحكمة، أرجو أن تثمر أفكارنا ولقاؤنا اليوم في حياتكم وفي حياة هذه الجماعة الأكاديمية. يعتمد عليكم الربّ والكنيسة: فأنتم تلعبون دورًا رئيسيًّا في رسالة البحث عن الحكمة الإلهيّة وإيجادها ونشرها، وتقدمة الفرح والرجاء لمجتمع اليوم. من فضلكم، لا تنسوا أن تصلّوا من أجلي ومن أجل جميع الذين يحتاجون كثيرًا إلى مساعدتنا.
والآن، بينما أستعدّ لمغادرة اليابان، أشكركم، وأشكر من خلالكم كلّ الشعب الياباني على الترحيب الذي استقبلتموني به خلال هذه الزيارة. أؤكّد لكم أني أحملكم في قلبي وفي صلاتي. شكرًا!
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2019
© Copyright – Libreria Editrice Vaticana