Messe Au Stade De Zimpeto, Maputo, Mozambique © Vatican Media

البابا فرنسيس يحذّر من خطر الغنّوصية والبيلاجية

تسلّل العصر الجديد في الكنيسة

Share this Entry

تكلمّنا في المقالة السابقة عن خطر الغنوصية والبيلاجية، الذي أشار إليه البابا فرنسيس في الإرشاد الرسولي “افرحوا وابتهجوا” فقال أنّهما شكلان من الأمان العقائدي أو النظامي اللذان يُفضيان إلى “نُخبويّة نرجسيّة وسلطويّة حيث وبدلاً من البشارة يتمُّ تحليل وتصنيف الآخرين، وبدلاً من تسهيل الحصول على النعمة يتمُّ استهلاك الطاقات في السيطرة. وفي الحالتين لا يهمّ فعلاً يسوع المسيح ولا الآخرين”

 تعرض بعض تقنيات التنمية البشرية سلسلة من الحلول السهلة وتطرح وصفات سحرية للسعادة والنجاح الشخصيين. كما تدّعي الإجابة على كل التساؤلات ليس فقط تلك التي لها علاقة بالمستوى النفسي بل أيضا تلك التي هي من المستوى الروحي (كما في علم النفس عبر الشخصيpsychologie Transpersonnelle.( هي نوع من النبوّة المزيفة والتبعية لمعلّم روحي “غورو” على مثال ما نشهده في البدع. ينطبق علىيها ما قاله الرسول يعقوب واصفاً هذا النوع الزائف من الحكمة: “ليست هذه الحكمة نازلة من فوق، بل هي أرضية نفسانية شيطانية” (يع3/ 15)

 لقد أشار البابا فرنسيس إلى هذا الانحراف وحذّر منه قائلاً: “عندما يملك أحدهم أجوبة لجميع الأسئلة، فهذا يُظهر أنّه لا يسير في الطريق القويم وأنّه قد يكون نبيًّا مُزيَّفًا يستعمل الدين لمصلحته ولخدمة نزواته النفسيّة والعقليّة. إنَّ الله يفوقنا بلا حدود، وهو على الدوام يمثل مفاجأة لنا ولسنا نعرف على وجه اليقين في أيّ ظرفٍ تاريخيّ نلتقيه، طالما تحديد زمان ومكان وطريقة اللقاء لا تتوقّف علينا. إنَّ من يرغب في أن يكون كلُّ شيء واضحًا وأكيدًا يدّعي السيطرة على سموِّ الله.” (افرحوا وابتهجوا، فقرة 41)

الروح يهبّ حيث يشاء!

من جهةٍ أخرى، نلاحظ أنّ كلّ هذه التقنيات تُهمل عمل الروح القدس الذي لا يمكن تحديده كما في العلوم التجريبية. وحده الله فاحص الكلى والقلوب يعرف الإنسان وعمق نواياه وأفكاره. يقول القدّيس يوحنا الإنجيلي: “الريح تهبّ حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. هكذا كلّ من وُلد من الروح” (يو3/ 8)

    “لا يمكننا أيضًا أن ندَّعي تحديد الأماكن التي لا يُقيم فيها الله، لأنّه حاضر بشكل سرّيٍّ في حياة كلِّ شخص، هو حاضر في حياة كلِّ فرد بالطريقة التي يرغب هو فيها ولا يمكننا أن ننكره بقناعاتنا المزعومة. حتى عندما تكون حياة شخص ما كارثية ونرى أن الرذائل والإدمانات تدمِّره فالله يكون حاضرًا في حياته. إن سمحنا للروح القدس أن يقودنا أكثر من استنتاجاتنا يمكننا وعلينا أن نبحث عن الربّ في كلِّ حياة بشريّة. هذا الأمر يشكِّل جزءًا من السرِّ الذي ترفضه الذهنيّة الغنّوصيّة لأنه لا يمكنها أن تسيطر عليه.(افرحوا وابتهجوا، فقرة 42)

حدود العقل وبساطة الإنجيل

لا يمكن لعقل الإنسان مهما تقدّمت به العلوم الإنسانية والتطبيقية، ومهما تطوّرت التكنولوجيا، أن يفهم الحقيقة بالكامل ويعبّر عنها بشكل صحيح وبالتالي أن يتحكّم بحياة الناس. إنّ بساطة الانجيل تتحدّى تعقيدات فكرنا ومحدودية تقنياتنا مع العلم أن تنوّع أساليب مقاربة وتفسير العقيدة يساعد بلا شك في شرح كنز الكلمة الغنيّ بشكلٍ أفضل.

  “يمكن لهذا الأمر أن يبدو تشتيتًا بالنسبة للذين يحلمون بعقيدة موحّدة يدافع عنها الجميع بدون تحليلات خاصة. فقد استخفَّت بعض التيارات الغنّوصيّة، وبالتحديد، ببساطة الإنجيل الملموسة وحاولت أن تستبدل الله الثالوث المتجسّد بوحدة سامية يختفي فيها تنوُّع تاريخنا الغنيّ. (افرحوا وابتهجوا، فقرة 43)

من جهةٍ أخرى، تعرض بعضُ التقنيات في التنمية البشرية منظوماتٍ مركّبة ومغلقة، تعمل بحسب تصنيفات تختزل الإنسان والله معًا. هذا الأمر ينطبق مثلاً على التاسوعية Enneagramme بحسب رأي الأب اليسوعي ميتش باكواFr Mitch Pacwa.  الذي قام بدراسة نقدية لهذه التقنية سنعرضها بالتفصيل في مقالة لاحقة. فالحياة الروحية التي أساسها العقيدة والتي نعبّر عنها جماعياً في الليتورجيا[1]،  هي ديناميكية ومتحرّكة، لكن بشكلٍ سريّ وليس بحسب مسارٍ منظّم ومعرفي كما هو الحال في المسارات الباطنية (الإيزوتيريك) . هذه المنظومات المعرفية المركّبة، التي تطرحها تقنيات التنمية البشرية  تُدخلنا في “النُخبوية”، هذا الشعور بالتفوّق على الآخرين، أحد معايير التمييز البدعوي.

  غالبًا ما ينجم التباس خطير: أن نعتقد، بمجرد أن نعرف شيئًا أو يمكننا شرحه بمنطق معيَّن، أننا قدّيسون، وكاملون، وأفضل من “الحشود الجاهلة”. لقد حذّر القدّيس يوحنا بولس الثاني الأشخاصَ الذين لديهم الإمكانية في الكنيسة بالحصول على تنشئة عالية من تجربة أن يصبح لديهم “شعورٌ بالتفوُّق على المؤمنين الآخرين”. لكن في الواقع ينبغي على ما نعتقد أننا نعرفه أن يشكّل على الدوام حافزًا لكي نجيب بشكل أفضل على محبّة الله لأننا “نتعلّم لكي نعيش: اللاهوت والقداسة هما أمران لا ينفصلان”(افرحوا وابتهجوا، فقرة 45)

إذًا يُخشى أن تنحرف هذه المنظومات المعرفية وتقنياتها صوب الغنوصية بإهمالها روح الصلاة والتقوى وأعمال الرحمة. وبابتعادها عن جوهر التقليد الرسولي وتعاليم الآباء القديسين. يعطي البابا فرنسيس مثالاً على ذلك فيقول:

”    عندما كان القدّيس فرنسيس الأسيزي يرى أنَّ بعض تلاميذه كانوا يُعلِّمون العقيدة، أراد أن يتجنّب تجربة الغنّوصيّة؛ وبالتالي كتب إلى القدّيس أنطونيوس البدواني: “يطيب لي أن تعلِّم الإخوة اللاهوت المقدّس، شرط ألّا تُطفئ بهذه المهمّة روح الصلاة والتقوى”. كان يعرف تجربة تحويل الخبرة المسيحيّة إلى مجموعة نزوات عقليّة تنتهي بإبعادنا عن نضارة الإنجيل. من جهة أخرى كان القدّيس بونافنتورا يحذِّر من أنّه لا ينبغي على الحكمة المسيحيّة أن تنفصل عن الرحمة تجاه القريب: “إنَّ أكبر حكمة موجودة تقوم على أن يستغني المرء بطريقة مُثمرة عن الذي يملكه، والذي قد ناله لأن آخر أعطاه إياه. (…) لذلك فكما أنَّ الرحمة هي صديقة الحكمة، فالبخل هو عدوُّها”. “هناك نشاط، إن اتّحد بالتأمّل، فهو لا يعيقهُ بل يُسهِّله، كأعمال الرحمة والرأفة”(افرحوا وابتهجوا، فقرة 46)

كما يُخشى أيضاً من تسلّل “غنوصية جديدة” اسمها “العصر الجديد”، مع انتشار دورات في البرمجة اللغوية العصبية والتنويم الإيحائي، تقام في أديرة ومؤسسات كاثوليكية، ويحضرها كهنة ورهبان وراهبات. كما تعلَّم في معاهد اللاهوت تقنياتُ السوفرولوجي والتاسوعية، وفي صفوف التنشئة المسيحية نصادف مدرّبي حياة Life  coach لا علاقة لهم بالعلاج النفسي الكلاسيكي، يدرّبون على علم النفس الإيجابي وعلم النفس عبر الشخصي والتفكير الإيجابي وقانون الجذب والطاقة الحيوية الخ . هذه كلّها، ضلالات حذّرت منها الكنيسة مراراً في تعاليمها والرسائل والإرشادات الباباوية.

يتبع

لمجد المسيح!

[1]الليتورجيا هي العقيدة والعقيدة هي الليتورجيا، Lex Orandi, Lex Credenti

Share this Entry

ZENIT Staff

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير