و”تبقى العائلة”، عنوان لكتاب يبقى الأساس في كل ما سبق وكتب أخي الراهب د. نجيب بعقليني، وكأني بهذا العنوان رسم خريطة طريق لكتابه هذا الذي توّج به كل ما سبق وأنتج في موضوع الزواج والعلاقة بين الثنائي والعائلة.
إذا كان الكتاب تاج غار مرصّع بلؤلؤيات روحيّة ونفسيّة واجتماعيّة، تبقى مقدمة الكتاب اللؤلؤة الجامعة لكل هذه القيم، ولا يمكنك أن تجوز وتعبر عنها عند مطالعتك الكتاب بمجمله. وكم أتشرف في تحرير مقال بشأن هذا الكتاب القيّم والشيّق، لأعبّر عن مدى أهميّته المقرونة بفرحي، فرح الحبّ والحبّ الأخوي، فأردد مع صاحبّ الكتاب: “لا يفرح الإنسان إلا بالحبّ، الذي بدوره يجب أن يكون مصدر الفرح”، وإذا لم يكن الأمر هكذا، فهل يمكننا القول أن هناك حبّا؟ وهذا ما عبّر عنه الكاتب في التمهيد لكتابه وتبقى العائلة.
ينطلق الكاتب، في العنوان الأول للكتاب، من آخر مجمع للأساقفة، عُقد في حاضرة الفاتيكان تحت عنوان “التحديات الراعوية للعائلة في إطار الأنجلة” وتوبع تحت عنوان “رسالة ودعوة العائلة في الكنيسة في عالم اليوم”. والملفت أن الأب بعقليني، علاوة على إبراز تعاليم الكنيسة ومجامعها، يطرح إشكاليات وتساؤلات تساعد على كيفية تطبيق تلك التعاليم، منطلقًا من أرض الواقع والاختبارات المعاشة بين الأزواج. وهذا ما يضفي على الكتاب نكهة القراءة للاستفادة، خصوصا بما نوّه اليه الكاتب مشيرًا إلى أهمية الرحمة مع العدالة[1]. علاوة على ذلك، سجّل الكاتب انطباعات رجال الاختصاص، التي تتماشى وقناعاته، حول الإرشاد الرسولي “فرح الحبّ” لقداسة البابا فرنسيس، مبيّنا جديده ومدى فاعليته، سواء كان على الصعيد التعليمي أو على الصعيد العملي، بخاصة بالتنبه للقضايا الشائكة في أمور الزواج[2]. هذا ويشدّد الأب بعقليني على المرافقة قبل الزواج وبعده.
ويتابع الأب بعقليني، ودائما انطلاقا من الإرشاد الرسولي، “فرح الحبّ”، محور كتابه “وتبقى العائلة”، كأنّي بهذا الإرشاد هو رجاء لعائلة اليوم؟ ينطلق الكاتب من الله: أب وابن وروح قدس، انه عائلة هو واحد وليس وحيدًا، تجسّد، بشخص الابن، في عائلة بشرية، عائلة الناصرة، عائلة طبيعية أم وأب. موضحا في هذا السياق كم لهذا الإرشاد من الأهمية بمكان، إذ جاء دعمًا لوجود العائلة في العالم وحقيقتها ومدى أهميتها للجنس البشري، خصوصًا في عصر باتت فيه العائلة أفرادًا، لا بل أرقامًا، تعيش تحت سقف واحد كما في نزل. ناهيك عن التحديات التي تواجه العائلة في عصرنا وقد أتت تدكّ أسس العائلة[3]. لذا يوضح الإرشاد المذكور المعنى الحقيقي للحبّ الذي يسمو على كل اعتبار دنيوي لينمو في قلب كل زوجين فتنمو بذلك العائلة.
ونظرا لما يتضمّنه “فرح الحبّ” من غنى، يستفيض الكاتب في التكلّم على هذا الإرشاد الرسولي محلّلًا كل ما جاء فيه نظرا لأهميته، وكما سبق ونوّهت، إن الكاتب جعل من هذا الإرشاد المحور الأساس لكتابه “وتبقى العائلة”، بالإضافة إلى التعليم العميق في موضوع العائلة، الذي يندرج أيضا في الإرشاد الرسولي؛ فهو لا يكتفي بوصف للحياة الواقعية وصعوباتها وحسب، بل يقدّم أيضًا الحلول[4].
وينتقل الأب بعقليني في سياق كتابه إلى طرح سؤال كياني حول الحبّ: “هل أصبح الحبّ في عصرنا عنوانًا أم شعارًا؟” ويكمل: “هل أصبح الوهم عنوانًا للحبّ والحياة الزوجية، أم أن الحياة الزوجية والحبّ باتا مكانًا للوهم؟”. أسئلة كثيرة وأجوبة أكثر، إنما إلى أيّ حدّ تكون مقنعة وفاعلة وعملية؟ هذا ما حاول “فرح الحبّ” معالجته، موضحًا أن الحبّ ليس شعارا إنما هو عنوان للحياة المشتركة والقابل التحقيق. فالحبّ، بالمطلق، بين الرجل والمرأة هدفه وغايته الزواج والعائلة. والحبّ الزوجي، بعد الحبّ الذي يجمعنا بالله، هو “الصداقة الأعظم”. هذا من جهة، ومن ناحية أخرى يشدّد الإرشاد الرسولي في نهاية فصله الرابع على أهمية البعد الجنسي للحبّ مركزًا على تصحيح النظرة إلى الجسد واستعماله بهدف نموّ الثنائي[5].
ويكمل الأب بعقليني بطرح معضلة أساسية حيال العلمنة التي يعيشها العالم بأسره مع ما تحمله من معطيات علمية وتطورات تكنولوجية؛ تغييرات أثرت سلبا على الثوابت الإنسانية، وقد يدعوها “الحضارة المفبركة” بالنسبة للزواج والتي تؤثر على تغيير المفاهيم والمبادئ والأسس والمقوّمات، التي بنيت عليها البشريّة منذ خلقها. فهل هذا انقلاب أم تجدّد وتطوّر؟
من باب إثارة فضوليتك أخي القارئ، أدعوك إلى الاستمتاع بقراءة هذا العنوان في كتاب “وتبقى العائلة” للأب د. نجيب بعقليني[6]. ويخلص الكاتب إلى القول: وتبقى العائلة، بفضل فضيلة مجهولة، بعض الشيء، في زمن العلاقات المسعورة والسطحية، ألا وهي “الحنان”.
ويوضح الأب نجيب، كيف أن الحبّ يصبح مثمرًا، معتمدا على ما ورد في الفصل الخامس من الإرشاد الرسولي “فرح الحبّ”، داعيًا إلى التوقف على مفهوم الحبّ ومبادئه. فيقول: أن الحبّ المبني على العاطفة والعقل والاحترام، يبقى نقطة الارتكاز لكل علاقة غرامية تصبو إلى زواج ناجح؛ بالرغم من أن هناك إرادة ونيّة من قبل البعض بتغيير ماهيّة الحبّ والزواج والعائلة والطعن بها وبنواتها وهيكليّتها وتركيبتها.
وبعد أن ركّز الكاتب على الأسس التي تمتّن الحبّ والزواج والعائلة، مستندا إلى الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة، تراه في قسم آخر من الكتاب يعرض إلى أزمات الثنائي في عصرنا الحاضر، وإلى واقع الحياة العائلية وتحدّياتها والتربية وتوزيع الأدوار فيها لا تبديلها. ويخلص في فصل أخير من هذا القسم، ليبيّن أن عدم الحوار واللجوء إلى العنف يؤديان إلى فقدان الحبّ.
ومن حيث ان كتاب “وتبقى العائلة” لا يقتصر على سرد الأمور الإيجابية منها والسلبية، بل يتمتّع بالوجه الأهم والهدف الأسمى الذي يصبو اليه الكاتب ألا وهو طرح الحلول والطرق المؤاتية لتجاوز المعضلات التي تعترض الحبّ والشركة بين الزوجين والحياة العائلية. من هنا يترك الكاتب القسم الأخير من الكتاب للأمور العملية والسبل الفاعلة في حل النزعات في العائلات، إذ بتكلم على الوساطة الراعوية في الخلافات الزوجية، إلى جانب تذكّر أمور إيجابية منسية، وإعادة إحيائها، بالإضافة إلى قيمة عيش بُعد السرّ في الزواج الذي يعزز حياة الشراكة بين الزوجين بنعمة خاصة من الرب. هذا ولا يهمل الأب بعقليني، ومن باب الغيرة على خلاص النفوس، موضوع “الحبّ” والإعداد للزواج طارحًا رؤية مستقبلية لهذا الأمر، من خلال “فرح الحبّ” الذي هو على المحك وتنشئة المحامين وبخاصة الكنسيين على روحانية مسيحيّة تجعل من مهنته رسالة يؤديها بدوره في سبيل إنقاذ الزواج الذي أصبح مهددا في كل آونة.
ولا يغيب عن بال الأب بعقليني المواكب لكل جديد في تعليم الكنيسة، أن يفرد في كتابه عنوانا يتكلم فيه على راعوية متجددة للأنجلة الجديدة، لينهي معك أيها القارئ العزيز، باعثا في نفسك، رؤيته اللاهوتية: الحنين إلى الفردوس، برغبة الإنسان ألا يكون إنسانًا، وكيف يكون ذلك[7]؟
وفي الختام أسدي إليك، يا أخي القارئ، توصية:
بقراءتك الكتاب وتصفّحه تشعر، أخي القارئ، وكأنك أمام عدة سيناريوهات تتكرّر فيها الكلمات عينها؛ هذا إذا اقتصرت قراءتك على قراءة سطحية للمؤلَّف. أمّا إذا تعمّقت في القراءة وتوقفت عند مضمون الكلمات تلحظ بدورك التصاعدية في الفكر والمعالجة سواء كان في تفسير الإرشاد الرسولي “فرح الحبّ” للبابا فرنسيس، أو في كيفية تحليل فصوله وعناوينه، التي حاول الكاتب أن يبيّنها ويوضحها. وهكذا تتحاشى الشعور بالتكرار. ومن خلال تركيزك لما تضمّن الكتاب عن الحبّ: بأنه ليس حالة بل ديناميّة تتفاعل مع تطورات العصر، إيجابيّة كانت أم سلبيّة، نرى الكاتب، وبالرغم من ذلك، يشدّد على عدم المساس بالثوابت، وتاليًا بعدم نسفها[8]. هذا ويطرح الأب نجيب، في مؤَلّفه سؤالا يجسد ما سبق وقلته: “فهل تصلح مبادئ الكنيسة وتعاليمها لمفهوم الحبّ اليوم، بحسب معايير الشباب وعيشهم للحبّ وللمبادئ والقيم؟ فهل يبقى الحبّ، بالنسبة لهم، دينامية فرح وسعادة؟ أم مجرّد تعاسة وعذاب؟ وغيرها من الأسئلة المثيرة للتفكير وقد أدعوك إلى قراءتها في كتاب “وتبقى العائلة” للأب د. نجيب بعقليني.
دير مار الياس الكنيسة في 17 كانون الثاني 2020
الأب جوزيف عبد الساتر
قاضٍ سابق في المحاكم الروحيّة الكاثوليكيّة
[1] راجع الكتاب ص. 22 المقطع الثاني والمقطع الرابع.
[2] راجع الكتاب ص. 26 المقطع الأول “… تبسيط إجراءات …لا سيّما المجروحة منها.”.
[3] بدعة الأب الاختياري ((le père facultatif في فرنسا.
[4] راجع الكتاب ص. 37 المقطع الأخير.
[5] راجع الكتاب ص. 51 المقطع الأول.
[6] راجع الكتاب ص. 53 §1
[7] راجع الكتاب ص. 301
[8] راجع الكتاب ص. 65 المقطع الأخير.